الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الطبري المسمى بـ «جامع البيان في تأويل آي القرآن» ***
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}. وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ الْخَصْمُ الْمُتَسَوِّرُونَ عَلَى دَاوُدَ مِحْرَابَهُ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ دَاوُدَ كَانَتْ لَهُ فِيمَا قِيلَ: تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَكَانَتْ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَغْزَاهُ حَتَّى قُتِلَ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمَّا قُتِلَ نَكَحَ فِيمَا ذُكِرَ دَاوُدُ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُهُمَا: (إِنَّ هَذَا أَخِي) يَقُولُ: أَخِي عَلَى دِينِي. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: (إِنَّ هَذَا أَخِي): أَيْ عَلَى دِينِي {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ}. وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى" وَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ تَوْكِيدِ الْعَرَبِ الْكَلِمَةَ، كَقَوْلِهِمْ: هَذَا رَجُلٌ ذَكَرٌ، وَلَا يَكَادُونَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إِلَّا فِي الْمُؤَنَّثِ وَالْمُذَكَّرِ الَّذِي تَذْكِيرُهُ وَتَأْنِيثُهُ فِي نَفْسِهِ كَالْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ وَالنَّاقَةِ، وَلَا يَكَادُونَ أَنَّ يَقُولُوا هَذِهِ دَارٌ أُنْثَى، وَمِلْحَفَةٌ أُنْثَى، لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا فِي اسْمِهَا لَا فِي مَعْنَاهَا. وَقِيلَ: عَنَى بِقَوْلِهِ: أُنْثَى: أَنَّهَا حَسَنَةٌ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ " إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً أُنْثَى" يَعْنِي بِتَأْنِيثِهَا. حُسْنَهَا. وَقَوْلُهُ {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} يَقُولُ: فَقَالَ لِي: أَنْزِلْ عَنْهَا لِي وَضُمَّهَا إِلَيَّ. كَمَا حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (أَكْفِلْنِيهَا) قَالَ: أَعْطِنِيهَا، طَلِّقْهَا لِي، أَنْكِحُهَا، وَخَلِّ سَبِيلَهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، فَقَالَ: (أَكْفِلْنِيهَا) أَيِ احْمِلْنِي عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} يَقُولُ: وَصَارَ أَعَزَّ مِنِّي فِي مُخَاطَبَتِهِ إِيَّايَ، لِأَنَّهُ إِنْ تَكَلَّمَ فَهُوَ أَبْيَنُ مِنِّي، وَإِنْ بَطَشَ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي فَقَهَرَنِي. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي الضُّحَى، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قَالَ: مَا زَادَ دَاوُدُ عَلَى أَنْ قَالَ: أَنْزِلْ لِي عَنْهَا. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنِ الْمَسْعُودِيِّ، عَنِ الْمِنْهَالِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا زَادَ عَلَى أَنْ قَالَ: أَنْزِلْ لِي عَنْهَا. وَحَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْمَسْعُودِيُّ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ مُسْلِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: مَا زَادَ دَاوُدُ عَلَى أَنْ قَالَ: (أَكْفِلْنِيهَا). حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قَالَ: إِنْ دَعَوْتُ وَدَعَا كَانَ أَكْثَرَ، وَإِنْ بَطَشْتُ وَبَطَشَ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}، أَيْ ظَلَمَنِي وَقَهَرَنِي. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قَالَ: قَهَرَنِي، وَذَلِكَ الْعِزُّ، قَالَ: وَالْخِطَابُ: الْكَلَامُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ}: أَيْ قَهَرَنِي فِي الْخِطَابِ، وَكَانَ أَقْوَى مِنِّي، فَحَازَ نَعْجَتِي إِلَى نِعَاجِهِ، وَتَرَكَنِي لَا شَيْءَ لِي. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قَالَ: إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَبْيَنَ مِنِّي، وَإِنْ بَطَشَ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي، وَإِنْ دَعَا كَانَ أَكْثَرَ مِنِّي.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ دَاوُدُ لِلْخَصْمِ الْمُتَظَلِّمِ مِنْ صَاحِبِهِ: لَقَدْ ظَلَمَكَ صَاحِبُكَ بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَكَ إِلَى نِعَاجِهِ، وَهَذَا مِمَّا حُذِفَتْ مِنْهُ الْهَاءُ فَأُضِيفَ بِسُقُوطِ الْهَاءِ مِنْهُ إِلَى الْمَفْعُولِ بِهِ، وَمَثْلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} وَالْمَعْنَى: مِنْ دُعَائِهِ بِالْخَيْرِ، فَلَمَّا أُلْقِيَتِ الْهَاءُ مِنَ الدُّعَاءِ أُضِيفَ إِلَى الْخَيْرِ، وَأُلْقِي مِنَ الْخَيْرِ الْبَاءُ، وَإِنَّمَا كُنِّيَ بِالنَّعْجَةِ هَا هُنَا عَنِ الْمَرْأَةِ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى: قَدْ كُنْتُ رَائِدَهَا وَشَاةِ مُحَاذِرٍ *** حَذَرًا يُقِلُّ بِعَيْنِهِ إِغْفَالَهَا يَعْنِي بِالشَّاةِ: امْرَأَةَ رَجُلٍ يَحَذَرُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يَعْنِي: لَقَدْ ظُلِمْتَ بِسُؤَالِ امْرَأَتِكَ الْوَاحِدَةِ إِلَى التِّسْعِ وَالتِّسْعِينَ مِنْ نِسَائِهِ. وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ}يَقُولُ: وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الشُّرَكَاءِ لِيَتَعَدَّى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} بِاللَّهِ (وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يَقُولُ: وَعَمِلُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَانْتَهَوْا إِلَى أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، وَلَمْ يَتَجَاوَزُوهُ (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) وَفِي"مَا" الَّتِي فِي قَوْلِهِ (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ صِلَةً بِمَعْنَى: وَقَلِيلٌ هُمْ، فَيَكُونُ إِثْبَاتُهَا وَإِخْرَاجُهَا مِنَ الْكَلَامِ لَا يُفْسِدُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَالْآخَرُ أَنْ تَكُونَ اسْمًا، وَ"هُمْ" صِلَةً لَهَا، بِمَعْنَى: وَقَلِيلٌ مَا تَجِدُهُمْ، كَمَا يُقَالُ: قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُكَ أَعْقَلَ مِمَّا أَنْتَ، فَتَكُونُ أَنْتَ صِلَةً لِمَا، وَالْمَعْنَى: كُنْتُ أَحْسَبُ عَقْلَكَ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ، فَتَكُونُ"مَا" وَالِاسْمُ مَصْدَرًا، وَلَوْ لَمْ تَرُدَّ الْمَصْدَرَ لَكَانَ الْكَلَامُ بِمَنْ، لِأَنَّ مَنِ الَّتِي تَكُونُ لِلنَّاسِ وَأَشْبَاهِهِمْ، وَمَحْكِيٌّ عَنِ الْعَرَبِ: قَدْ كُنْتُ أَرَاكَ أَعْقَلَ مِنْكَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَا هُوَ، بِمَعْنَى: كُنْتُ أَرَاهُ عَلَى غَيْرِ مَا رَأَيْتُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ذَلِكَ مَا حَدَّثَنِي بِهِ عَلَيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلَىٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} يَقُولُ: وَقَلِيلٌ الَّذِينَ هُمْ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} قَالَ: قَلِيلٌ مَنْ لَا يَبْغِي. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعْنَى الْكَلَامِ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وَقَلِيلٌ الَّذِينَ هَمْ كَذَلِكَ، بِمَعْنَى: الَّذِينَ لَا يَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَ"مَا" عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بِمَعْنَى: مَنْ. وَقَوْلُهُ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يَقُولُ: وَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَمَا ابْتَلَيْنَاهُ، كَمَا: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَظَنَّ دَاوُدُ): عَلِمَ دَاوُدُ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قَالَ: ظَنَّ أَنَمَا ابْتُلِيَ بِذَاكَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} قَالَ: ظَنَّ أَنَمَا ابْتُلِيَ بِذَاكَ. حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} اخْتَبَرْنَاهُ. وَالْعَرَبُ تُوَجِّهُ الظَّنَّ إِذَا أَدْخَلَتْهُ عَلَى الْإِخْبَارِ كَثِيرًا إِلَى الْعِلْمِ الَّذِي هُوَ مِنْ غَيْرِ وَجْهِ الْعِيَانِ. وَقَوْلُهُ (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) يَقُولُ: فَسَأَلَ دَاوُدُ رَبَّهُ غُفْرَانَ ذَنْبِهِ (وَخَرَّ رَاكِعًا) يَقُولُ: وَخَرَّ سَاجِدًا لِلَّهِ (وَأَنَابَ) يَقُولُ: وَرَجَعَ إِلَى رِضَا رَبِّهِ، وَتَابَ مِنْ خَطِيئَتِهِ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ الْبَلَاءِ الَّذِي ابْتُلِيَ بِهِ نَبِيُّ اللَّهِ دَاوُدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ تَذَكَّرَ مَا أَعْطَى اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ الْبَاقِي لَهُمْ فِي النَّاسِ، فَتَمَنَّى مِثْلَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمُ امْتُحِنُوا فَصَبَرُوا، فَسَأَلَ أَنْ يُبْتَلَى كَالَّذِي ابْتُلُوا، وَيُعْطَى كَالَّذِي أُعْطَوْا إِنْ هُوَ صَبَرَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قَالَ: إِنَّ دَاوُدَ قَالَ: يَا رَبِّ قَدْ أَعْطَيْتَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنَ الذِّكْرِ مَا لَوَدِدْتُ أَنَّكَ أَعْطَيْتَنِي مِثْلَهُ، قَالَ اللَّهُ: إِنِّي ابْتَلَيْتُهُمْ بِمَا لَمْ أَبْتَلِكَ بِهِ، فَإِنْ شِئْتَ ابْتَلَيْتُكَ بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتُهُمْ بِهِ، وَأَعْطَيْتُكَ كَمَا أَعْطَيْتُهُمْ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ لَهُ: فَاعْمَلْ حَتَّى أَرَى بَلَاءَكَ، فَكَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، وَطَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَكَادَ أَنْ يَنْسَاهُ، فَبَيْنَا هُوَ فِي مِحْرَابِهِ، إِذْ وَقَعَتْ عَلَيْهِ حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهَا، فَطَارَ إِلَى كُوَّةِ الْمِحْرَابِ، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهَا، فَطَارَتْ، فَاطَّلَعَ مِنَ الْكُوَّةِ، فَرَأَى امْرَأَةً تَغْتَسِلُ، فَنَزَلَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمِحْرَابِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَجَاءَتْهُ، فَسَأَلَهَا عَنْ زَوْجِهَا وَعَنْ شَأْنِهَا، فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ زَوْجَهَا غَائِبٌ، فَكَتَبَ إِلَى أَمِيرِ تِلْكَ السَّرِيَّةِ أَنْ يُؤَمِّرَهُ عَلَى السَّرَايَا لِيَهْلَكَ زَوْجُهَا، فَفَعَلَ، فَكَانَ يُصَابُ أَصْحَابُهُ وَيَنْجُو، وَرُبَّمَا نُصِرُوا، وَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا رَأَى الَّذِي وَقَعَ فِيهِ دَاوُدُ، أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْقِذَهُ، فَبَيْنَمَا دَاوُدُ ذَاتَ يَوْمٍ فِي مِحْرَابِهِ، إِذْ تَسَوَّرَ عَلَيْهِ الْخَصْمَانِ مِنْ قِبَلِ وَجْهِهِ، فَلَمَّا رَآهُمَا وَهُوَ يَقْرَأُ فَزَعَ وَسَكَتَ، وَقَالَ: لَقَدِ اسْتَضْعِفْتُ فِي مُلْكِي حَتَّى إِنَّ النَّاسَ يَتَسَوَّرُونَ عَلَيَّ مِحْرَابِي، قَالَا لَهُ: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} وَلَمْ يَكُنْ لَنَا بُدٌّ مِنْ أَنْ نَأْتِيَكَ، فَاسْمَعْ مِنَّا، قَالَ أَحَدُهُمَا: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} أُنْثَى {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} يُرِيدُ أَنْ يُتَمِّمَ بِهَا مِئَةً، وَيَتْرُكَنِي لَيْسَ لِي شَيْءٌ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قَالَ: إِنْ دَعَوْتُ وَدَعَا كَانَ أَكْثَرَ، وَإِنْ بَطَشْتُ وَبَطَشَ كَانَ أَشَدَّ مِنِّي، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} قَالَ لَهُ دَاوُدُ: أَنْتَ كُنْتَ أَحْوَجَ إِلَى نَعْجَتِكَ مِنْهُ {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}.. إِلَى قَوْلِهِ (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) وَنَسِيَ نَفْسَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَظَرَ الْمَلَكَانِ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ حِينَ قَالَ ذَلِكَ، فَتَبَسَّمَ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ، فَرَآهُ دَاوُدُ وَظَنَّ أَنَمَا فُتِنَ {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، حَتَّى نَبَتَتِ الْخُضْرَةُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ، ثُمَّ شَدَّدَ اللَّهُ لَهُ مُلْكَهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قَالَ: كَانَ دَاوُدُ قَدْ قَسَّمَ الدَّهْرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ: يَوْمٍ يَقْضِي فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ، وَيَوْمٍ يَخْلُو فِيهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ، وَيَوْمٍ يَخْلُو فِيهِ لِنِسَائِهِ، وَكَانَ لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، وَكَانَ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّهُ كَانَ يَجِدُ فِيهِ فَضْلَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَلَمَّا وَجَدَ ذَلِكَ فِيمَا يَقْرَأُ مِنَ الْكُتُبِ قَالَ: يَا رَبِّ إِنِ الْخَيْرَ كُلَّهُ قَدْ ذَهَبَ بِهِ آبَائِي الَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي، فَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ، وَافْعَلْ بِي مِثْلَ مَا فَعَلْتَ بِهِمْ، قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنَّ آبَاءَكَ ابْتُلُوا بِبَلَايَا لَمْ تَبْتَلَ بِهَا، ابْتُلِيَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِ ابْنِهِ، وَابْتُلِيَ إِسْحَاقُ بِذَهَابِ بَصَرِهِ، وَابْتُلِيَ يَعْقُوبُ بِحُزْنِهِ عَلَى يُوسُفَ، وَإِنَّكَ لَمْ تُبْتَلَ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ، قَالَ: يَا رَبِّ ابْتَلِنِي بِمِثْلِ مَا ابْتَلَيْتَهُمْ بِهِ، وَأَعْطِنِي مِثْلَ مَا أَعْطَيْتَهُمْ، قَالَ. فَأُوحِيَ إِلَيْهِ: إِنَّكَ مُبْتَلًى فَاحْتَرِسْ، قَالَ: فَمَكَثَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَمْكُثَ، إِذْ جَاءَهُ الشَّيْطَانُ قَدْ تَمَثَّلَ فِي صُورَةِ حَمَامَةٍ مِنْ ذَهَبٍ، حَتَّى وَقَعَ عِنْدَ رِجْلَيْهِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَمَدَّ يَدَهُ لِيَأْخُذَهُ، فَتَنَحَّى فَتَبِعَهُ، فَتَبَاعَدَ حَتَّى وَقَعَ فِي كُوَّةٍ، فَذَهَبَ لِيَأْخُذَهُ، فَطَارَ مِنَ الْكُوَّةِ، فَنَظَرَ أَيْنَ يَقَعُ، فَيَبْعَثُ فِي أَثَرِهِ. قَالَ: فَأَبْصَرَ امْرَأَةً تَغْتَسِلُ عَلَى سَطْحٍ لَهَا، فَرَأَى امْرَأَةً مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ خَلْقًا، فَحَانَتْ مِنْهَا الْتِفَاتَةٌ فَأَبْصَرَتْهُ، فَأَلْقَتْ شَعْرَهَا فَاسْتَتَرَتْ بِهِ، قَالَ: فَزَادَهُ ذَلِكَ فِيهَا رَغْبَةً، قَالَ: فَسَأَلَ عَنْهَا، فَأُخْبِرَ أَنَّ لَهَا زَوْجًا، وَأَنَّ زَوْجَهَا غَائِبٌ بِمُسَلَّحَةِ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَبَعَثَ إِلَى صَاحِبِ الْمُسَلَّحَةِ أَنْ يَبْعَثَ أَهُرْيًا إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَبَعَثَهُ، فَفُتِحَ لَهُ. قَالَ: وَكَتَبَ إِلَيْهِ بِذَلِكَ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَيْضًا: أَنِ ابْعَثْهُ إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا، أَشَدِّ مِنْهُمْ بَأْسًا، قَالَ: فَبَعَثَهُ فَفُتِحَ لَهُ أَيْضًا. قَالَ: فَكَتَبَ إِلَى دَاوُدَ بِذَلِكَ، قَالَ: فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنِ ابْعَثْهُ إِلَى عَدُوِّ كَذَا وَكَذَا، فَبَعَثَهُ فَقُتِلَ الْمَرَّةَ الثَّالِثَةَ، قَالَ: وَتَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ. قَالَ: فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ، قَالَ: لَمْ تَلْبَثْ عِنْدَهُ إِلَّا يَسِيرًا حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مَلَكَيْنِ فِي صُوَرِ إِنْسِيَّيْنِ، فَطَلَبَا أَنْ يَدْخُلَا عَلَيْهِ، فَوَجَدَاهُ فِي يَوْمِ عِبَادَتِهِ، فَمَنَعَهُمَا الْحَرَسُ أَنْ يَدْخُلَا فَتُسَوِّرُوا عَلَيْهِ الْمِحْرَابَ، قَالَا فَمَا شَعَرَ وَهُوَ يُصَلِّي إِذْ هُوَ بِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسِينَ، قَالَ: فَفَزِعَ مِنْهُمَا، فَقَالَا (لَا تَخَفْ) إِنَّمَا نَحْنُ {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} يَقُولُ: لَا تَحِفْ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: إِلَى عَدْلِ الْقَضَاءِ. قَالَ: فَقَالَ: قُصَّا عَلَيَّ قِصَّتَكُمَا، قَالَ: فَقَالَ أَحَدُهُمَا: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَ نَعْجَتِي، فَيُكْمِلَ بِهَا نِعَاجَهُ مِئَةً. قَالَ: فَقَالَ لِلْآخَرِ: مَا تَقُولُ؟ فَقَالَ: إِنَّ لِي تِسْعًا وَتِسْعِينَ نَعْجَةً، وَلِأَخِي هَذَا نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ، فَأَنَا أُرِيدُ أَنْ آخُذَهَا مِنْهُ، فَأُكْمِلُ بِهَا نِعَاجِي مِئَةً، قَالَ: وَهُوَ كَارِهٌ؟ قَالَ: وَهُوَ كَارِهٌ، قَالَ: وَهُوَ كَارِهٌ؟ قَالَ: إِذَنْ لَا نَدَعُكَ وَذَاكَ، قَالَ: مَا أَنْتَ عَلَى ذَلِكَ بِقَادِرٍ، قَالَ: فَإِنْ ذَهَبْتَ تَرُومُ ذَلِكَ أَوْ تُرِيدُ، ضَرَبْنَا مِنْكَ هَذَا هَذَا وَهَذَا، وَفَسَّرَ أَسْبَاطٌ طَرَفَ الْأَنْفِ، وَأَصْلَ الْأَنْفِ وَالْجَبْهَةَ، قَالَ: يَا دَاوُدُ أَنْتَ أَحَقُّ أَنَّ يُضْرَبَ مِنْكَ هَذَا وَهَذَا وَهَذَا، حَيْثُ لَكَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً امْرَأَةً، وَلَمْ يَكُنْ لِأُهْرِيًا إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَمْ تَزَلْ بِهِ تُعَرِّضُهُ لِلْقَتْلِ حَتَّى قَتَلْتَهُ، وَتَزَوَّجْتَ امْرَأَتَهُ. قَالَ: فَنَظَرَ فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، فَعَرَفَ مَا قَدْ وَقَعَ فِيهِ، وَمَا قَدِ ابْتُلِيَ بِهِ. قَالَ: فَخَرَّ سَاجِدًا، قَالَ: فَبَكَى. قَالَ: فَمَكَثَ يَبْكِي سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ إِلَّا لِحَاجَةٍ مِنْهَا، ثُمَّ يَقَعُ سَاجِدًا يَبْكِي، ثُمَّ يَدْعُو حَتَّى نَبَتَ الْعُشْبُ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ. قَالَ: فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا: يَا دَاوُدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، فَقَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي وَأَنْتَ حَكَمٌ عَدْلٌ لَا تَحِيفُ فِي الْقَضَاءِ، إِذَا جَاءَكَ أَهُرْيًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشَمَالِهِ تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا فَى قِبَلِ عَرْشِكَ يَقُولُ: يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي؟ قَالَ: فَأَوْحَى إِلَيْهِ: إِذَا كَانَ ذَلِكَ دَعَوْتُ أَهُرْيًا فَأَسْتَوْهِبُكَ مِنْهُ، فَيَهَبُكَ لِي، فَأُثِيبُهُ بِذَلِكَ الْجَنَّةَ، قَالَ: رَبِّ الْآنِ عَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي، قَالَ: فَمَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَمْلَأَ عَيْنَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ حَيَاءً مِنْ رَبِّهِ حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ: ثَنِي عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، قَالَ: نَقَشَ دَاوُدُ خَطِيئَتَهُ فِي كَفِّهِ لِكَيْلَا يَنْسَاهَا، قَالَ: فَكَانَ إِذَا رَآهَا خَفَقَتْ يَدُهُ وَاضْطَرَبَتْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ كَانَ ذَلِكَ لِعَارِضٍ كَانَ عَرَضَ فِي نَفْسِهِ مِنْ ظَنٍّ أَنَّهُ يُطِيقُ أَنْ يُتِمَّ يَوْمًا لَا يُصِيبُ فِيهِ حَوْبَةً، فَابْتُلِيَ بِالْفِتْنَةِ الَّتِي ابْتُلِيَ بِهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي طَمِعَ فِي نَفْسِهِ بِإِتْمَامِهِ بِغَيْرِ إِصَابَةِ ذَنْبٍ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ مَطَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ: إِنَّ دَاوُدَ جَزَّأَ الدَّهْرَ أَرْبَعَةَ أَجْزَاءٍ: يَوْمًا لِنِسَائِهِ، وَيَوْمًا لِعِبَادَتِهِ، وَيَوْمًا لِقَضَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَوْمًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يُذَاكِرُهُمْ وَيُذَاكِرُونَهُ، وَيُبْكِيهِمْ وَيُبْكُونَهُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَنِي إِسْرَائِيلَ قَالَ: ذَكَرُوا فَقَالُوا: هَلْ يَأْتِي عَلَى الْإِنْسَانِ يَوْمٌ لَا يُصِيبُ فِيهِ ذَنْبًا؟ فَأَضْمَرَ دَاوُدُ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ سَيُطِيقُ ذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عِبَادَتِهِ، أَغْلَقَ أَبْوَابَهُ، وَأَمَرَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَأَكَبَّ عَلَى التَّوْرَاةِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَقْرَؤُهَا، فَإِذَا حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ فِيهَا مَنْ كُلِّ لَوْنٍ حَسَنٍ، قَدْ وَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَأَهْوَى إِلَيْهَا لِيَأْخُذَهَا، قَالَ: فَطَارَتْ، فَوَقَعَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ، مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤَيِّسَهُ مِنْ نَفْسِهَا، قَالَ: فَمَا زَالَ يَتْبَعُهَا حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى امْرَأَةٍ تَغْتَسِلُ، فَأَعْجَبَهُ خَلْقُهَا وَحُسْنُهَا، قَالَ: فَلَمَّا رَأَتْ ظِلَّهُ فِي الْأَرْضِ، جَلَّلَتْ نَفْسَهَا بِشِعْرِهَا، فَزَادَهُ ذَلِكَ أَيْضًا إِعْجَابًا بِهَا، وَكَانَ قَدْ بَعَثَ زَوْجَهَا عَلَى بَعْضِ جُيُوشِهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَسِيرَ إِلَى مَكَانِ كَذَا وَكَذَا، مَكَانٌ إِذَا سَارَ إِلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ، قَالَ: فَفَعَلَ، فَأُصِيبَ فَخَطَبَهَا فَتَزَوَّجَهَا. قَالَ: وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا إِنَّهَا أُمُّ سُلَيْمَانَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ فِي الْمِحْرَابِ، إِذْ تَسَوَّرَ الْمَلَكَانِ عَلَيْهِ، وَكَانَ الْخَصْمَانِ إِذَا أَتَوْهُ يَأْتُونَهُ مِنْ بَابِ الْمِحْرَابِ، فَفَزِعَ مِنْهُمْ حِينَ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ، فَقَالُوا: {لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ}.. حَتَّى بَلَغَ (وَلَا تُشْطِطْ): أَيْ لَا تَمِلْ {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: أَيْ أَعْدَلِهِ وَخَيْرِهِ {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} وَكَانَ لِدَاوُدَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً (وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أَيْ: ظَلَمَنِي وَقَهَرَنِي، فَقَالَ: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}.. إِلَى قَوْلِهِ {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُدُ} فَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَمَا صَمَدَ لَهُ: أَيْ عَنَى بِهِ ذَلِكَ {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} قَالَ: وَكَانَ فِي حَدِيثِ مَطَرٍ، أَنَّهُ سَجَدَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، حَتَّى أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ: رَبِّ وَكَيْفَ تَغْفِرُ لِي وَأَنْتَ حَكَمٌ عَدْلٌ، لَا تَظْلِمُ أَحَدًا؟ قَالَ: إِنِّي أُقْضِيكَ لَهُ، ثُمَّ أَسْتُوْهِبُهُ دَمَكَ أَوْ ذَنْبَكَ، ثُمَّ أُثِيبُهُ حَتَّى يَرْضَى، قَالَ: الْآنَ طَابَتْ نَفْسِي، وَعَلِمْتُ أَنَّكَ قَدْ غَفَرْتَ لِي. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ الْيَمَانِيِّ، قَالَ: لَمَّا اجْتَمَعَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ، عَلَى دَاوُدَ، أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ الزَّبُورَ، وَعَلَّمَهُ صَنْعَةَ الْحَدِيدِ، فَأَلَانَهُ لَهُ، وَأَمَرَ الْجِبَالَ وَالطَّيْرَ أَنْ يُسَبِّحْنَ مَعَهُ إِذَا سَبَّحَ، وَلَمْ يُعْطِ اللَّهُ فِيمَا يَذْكُرُونَ أَحَدًا مَنْ خَلْقِهِ مِثْلَ صَوْتِهِ، كَانَ إِذَا قَرَأَ الزَّبُورَ فِيمَا يَذْكُرُونَ، تَدْنُو لَهُ الْوُحُوشُ حَتَّى يَأْخُذَ بِأَعْنَاقِهَا، وَإِنَّهَا لِمُصِيخَةٌ تَسْمَعُ لِصَوْتِهِ، وَمَا صَنَعَتِ الشَّيَاطِينُ الْمَزَامِيرَ وَالْبَرَابِطَ وَالصُّنُوجَ، إِلَّا عَلَى أَصْنَافِ صَوْتِهِ، وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ دَائِبَ الْعِبَادَةِ، فَأَقَامَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ يَحْكُمُ فِيهِمْ بِأَمْرِ اللَّهِ نَبِيًّا مُسْتَخْلَفًا، وَكَانَ شَدِيدَ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، كَثِيرَ الْبُكَاءِ، ثُمَّ عَرَضَ مِنْ فِتْنَةِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ مَا عَرَضَ لَهُ، وَكَانَ لَهُ مِحْرَابٌ يَتَوَحَّدُ فِيهِ لِتِلَاوَةِ الزَّبُورِ، وَلِصَلَاتِهِ إِذَا صَلَّى، وَكَانَ أَسْفَلَ مِنْهُ جَنِينَةٌ لِرَجُلٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ الْمَرْأَةُ الَّتِي أَصَابَ دَاوُدَ فِيهَا مَا أَصَابَهُ حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ، أَنَّ دَاوُدَ حِينَ دَخَلَ مِحْرَابَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، قَالَ: لَا يَدْخُلَنَّ عَلَيَّ مِحْرَابِي الْيَوْمَ أَحَدٌ حَتَّى اللَّيْلِ، وَلَا يَشْغَلَنِّي شَيْءٌ عَمَّا خَلَوْتُ لَهُ حَتَّى أُمْسِي، وَدَخَلَ مِحْرَابَهُ، وَنَشَرَ زُبُورَهُ يَقْرَؤُهُ وَفِي الْمِحْرَابِ كُوَّةٌ تُطْلِعُهُ عَلَى تِلْكَ الْجُنَيْنَةِ، فَبَيْنَا هُوَ جَالِسٌ يَقْرَأُ زَبُورَ، إِذْ أَقْبَلَتْ حَمَامَةٌ مِنْ ذَهَبٍ حَتَّى وَقَعَتْ فِي الْكُوَّةِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَرَآهَا، فَأَعْجَبَتْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا كَانَ قَالَ: لَا يَشْغَلُهُ شَيْءٌ عَمَّا دَخَلَ لَهُ، فَنَكَّسَ رَأْسَهُ وَأَقْبَلَ عَلَى زَبُورِهِ، فَتَصَوَّبَتْ الْحَمَامَةُ لِلْبَلَاءِ وَالِاخْتِبَارِ مِنَ الْكُوَّةِ، فَوَقَعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَنَاوَلَهَا بِيَدِهِ، فَاسْتَأْخَرَتْ غَيْرَ بَعِيدٍ، فَاتَّبَعَهَا، فَنَهَضَتْ إِلَى الْكُوَّةِ، فَتَنَاوَلَهَا فِي الْكُوَّةِ، فَتَصَوَّبَتْ إِلَى الْجُنَيْنَةِ، فَأَتْبَعَهَا بَصَرَهُ أَيْنَ تَقَعُ، فَإِذَا الْمَرْأَةُ جَالِسَةٌ تَغْتَسِلُ بِهَيْئَةٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهَا فِي الْجَمَالِ وَالْحُسْنِ وَالْخَلْقِ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهَا لَمَّا رَأَتْهُ نَقَضَتْ رَأْسَهَا فَوَارَتْ بِهِ جَسَدَهَا مِنْهُ، وَاخْتَطَفَتْ قَلْبَهُ، وَرَجَعَ إِلَى زَبُورِهِ وَمَجْلِسِهِ، وَهِيَ مِنْ شَأْنِهِ لَا يُفَارِقُ قَلْبَهُ ذِكْرَهَا. وَتَمَادَى بِهِ الْبَلَاءُ حَتَّى أَغْزَى زَوْجَهَا، ثُمَّ أَمَرَ صَاحِبَ جَيْشِهِ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ يُقَدِّمَ زَوْجَهَا لِلْمَهَالِكِ حَتَّى أَصَابَهُ بَعْضُ مَا أَرَادَ بِهِ مِنَ الْهَلَاكِ، وَلِدَاوُدَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً، فَلَمَّا أُصِيبَ زَوْجُهَا خَطَبَهَا دَاوُدُ، فَنَكَحَهَا، فَبَعْثَ اللَّهُ إِلَيْهِ وَهُوَ فِي مِحْرَابِهِ مَلَكَيْنِ يَخْتَصِمَانِ إِلَيْهِ، مَثَلًا يَضْرِبُهُ لَهُ وَلِصَاحِبِهِ، فَلَمْ يَرُعْ دَاوُدَ إِلَّا بِهِمَا وَاقِفَيْنِ عَلَى رَأْسِهِ فِي مِحْرَابِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ؟ قَالَا لَا تَخَفْ لَمْ نَدْخُلْ لِبَأْسٍ وَلَا لِرِيبَةٍ {خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} فَجِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ}: أَيِ احْمِلْنَا عَلَى الْحَقِّ، وَلَا تُخَالِفْ بِنَا إِلَى غَيْرِهِ، قَالَ الْمَلَكُ الَّذِي يَتَكَلَّمُ عَنْ أَوَرِيَا بْنِ حَنَانْيَا زَوْجِ الْمَرْأَةِ: (إِنَّ هَذَا أَخِي) أَيْ عَلَى دِينِي {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أَيِ احْمِلْنِي عَلَيْهَا، ثُمَّ عَزَّنِي فِي الْخِطَابِ: أَيْ قَهَرَنِي فِي الْخِطَابِ، وَكَانَ أَقْوَى مِنِّي هُوَ وَأَعَزَّ، فَحَازَ نَعْجَتِي إِلَى نِعَاجِهِ وَتَرَكَنِي لَا شَيْءَ لِي، فَغَضِبَ دَاوُدُ، فَنَظَرَ إِلَى خَصْمِهِ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ، فَقَالَ: لَئِنْ كَانَ صَدَقَنِي مَا يَقُولُ، لَأَضْرِبَنَّ بَيْنَ عَيْنَيْكَ بِالْفَأْسِ! ثُمَّ ارْعَوَى دَاوُدُ، فَعَرِفَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُرَادُ بِمَا صَنَعَ فِي امْرَأَةِ أَوَرِيَّا، فَوَقَعَ سَاجِدًا تَائِبًا مُنِيبًا بَاكِيًا، فَسَجَدَ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا صَائِمًا لَا يَأْكُلُ فِيهَا وَلَا يَشْرَبُ، حَتَّى أَنْبَتَ دَمْعُهُ الْخُضْرَ تَحْتَ وَجْهِهِ، وَحَتَّى أَنْدَبَ السُّجُودُ فِي لَحْمِ وَجْهِهِ، فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَقَبِلَ مِنْهُ. وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ قَالَ: أَيْ رَبِّ هَذَا غَفَرْتَ مَا جَنَيْتُ فِي شَأْنِ الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ بِدَمِ الْقَتِيلِ الْمَظْلُومِ؟ قِيلَ لَهُ: يَا دَاوُدُ، فِيمَا زَعَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ، أَمَّا إِنَّ رَبَّكَ لَمْ يَظْلِمْهُ بِدَمِهِ، وَلَكِنَّهُ سَيَسْأَلُهُ إِيَّاكَ فَيُعْطِيهِ، فَيَضَعُهُ عَنْكَ، فَلَمَّا فَرَّجَ عَنْ دَاوُدَ مَا كَانَ فِيهِ، رَسَمَ خَطِيئَتَهُ فِي كَفِّهِ الْيُمْنَى بَطْنِ رَاحَتِهِ، فَمَا رَفَعَ إِلَى فِيهِ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا قَطُّ إِلَّا بَكَى إِذَا رَآهَا، وَمَا قَامَ خَطِيبًا فِي النَّاسِ قَطُّ إِلَّا نَشَرَ رَاحَتَهُ، فَاسْتَقْبَلَ بِهَا النَّاسَ لِيَرُوا رَسْمَ خَطِيئَتِهِ فِي يَدِهِ. حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ إِدْرِيسَ، قَالَ: سَمِعْتُ لَيْثًا يَذْكُرُ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: لَمَّا أَصَابَ دَاوُدُ الْخَطِيئَةَ خَرَّ لِلَّهِ سَاجِدًا أَرْبَعِينَ يَوْمًا حَتَّى نَبَتَ مِنْ دُمُوعِ عَيْنَيْهِ مِنَ الْبَقْلِ مَا غَطَّى رَأْسَهُ، ثُمَّ نَادَى: رَبِّ قَرُحَ الْجَبِينُ، وَجَمَدَتِ الْعَيْنُ، وَدَاوُدُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَيْهِ فِي خَطِيئَتِهِ شَيْءٌ، فَنُودِيَ: أَجَائِعٌ فَتُطْعَمُ، أَمْ مَرِيضٌ فَتُشْفَى، أَمْ مَظْلُومٌ فَيَنْتَصِرُ لَكَ؟ قَالَ: فَنَحَبَ نَحْبَةً هَاجَ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ نَبَتَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ غُفِرَ لَهُ. وَكَانَتْ خَطِيئَتُهُ مَكْتُوبَةً بِكَفِّهِ يَقْرَؤُهَا، وَكَانَ يُؤْتَى بِالْإِنَاءِ لِيَشْرَبَ فَلَا يَشْرَبُ إِلَّا ثُلْثَهُ أَوْ نِصْفَهُ، وَكَانَ يَذْكُرُ خَطِيئَتَهُ، فَيَنْحَبُ النَّحْبَةَ تَكَادُ مَفَاصِلُهُ تَزُولُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، ثُمَّ مَا يَتِمُّ شَرَابَهُ حَتَّى يَمْلَأَهُ مِنْ دُمُوعِهِ، وَكَانَ يُقَالُ: إِنَّ دَمْعَةَ دَاوُدَ، تَعْدِلُ دَمْعَةَ الْخَلَائِقِ، وَدَمْعَةَ آدَمَ تَعْدِلُ دَمْعَةَ دَاوُدَ وَدَمْعَةُ الْخَلَائِقِ، قَالَ: فَهُوَ يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خَطِيئَتُهُ مَكْتُوبَةٌ بِكَفِّهِ، فَيَقُولُ: رَبِّ ذَنْبِي ذَنْبِي قَدِّمْنِي، قَالَ: فَيُقَدَّمُ فَلَا يَأْمَنُ فَيَقُولُ: رَبِّ أَخِّرْنِي فَيُؤَخَّرُ فَلَا يَأْمَنُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ أَبِي صَخْرٍ، عَنْ يَزِيدَ الرَّقَاشِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ سَمْعَهُ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " «إِنَّ دَاوُدَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نَظَرَ إِلَى الْمَرْأَةِ فَأَهَمَّ، قَطَعَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَوْصَى صَاحِبَ الْبَعْثِ، فَقَالَ: إِذَا حَضَرَ الْعَدُوُّ، فَقَرِّبْ فُلَانًا بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ، وَكَانَ التَّابُوتُ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ يُسْتَنْصَرُ بِهِ، وَمَنْ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيِ التَّابُوتِ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يُهْزَمَ عَنْهُ الْجَيْشُ، فَقُتِلَ زُوْجُ الْمَرْأَةِ وَنَزَلَ الْمَلَكَانِ عَلَى دَاوُدَ يَقُصَّانِ عَلَيْهِ قِصَّتَهُ، فَفَطِنَ دَاوُدُ فَسَجَدَ، فَمَكَثَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً سَاجِدًا حَتَّى نَبَتَ الزَّرْعُ مِنْ دُمُوعِهِ عَلَى رَأْسِهِ، وَأَكَلَتِ الْأَرْضُ جَبِينَهُ وَهُوَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ" فَلَمْ أُحْصِ مِنَ الرَّقَاشِيِّ إِلَّا هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ: "رَبِّ زَلَّ دَاوُدُ أَبْعَدُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، إِنْ لَمْ تَرْحَمْ ضَعْفَ دَاوُدَ وَتَغْفِرْ ذَنْبَهُ، جَعَلْتَ ذَنْبَهُ حَدِيثًا فِي الْخُلُوفِ مِنْ بَعْدِهِ، فَجَاءَهُ جِبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِ الْأَرْبَعِينَ لَيْلَةً، قَالَ: يَا دَاوُدُ إِنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لَكَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتَ بِهِ، فَقَالَ دَاوُدُ: عَلِمْتُ أَنَّ الرَّبَّ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَغْفِرَ لِيَ الْهَمَّ الَّذِي هَمَمْتُ بِهِ، وَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّ اللَّهَ عَدْلٌ لَا يَمِيلُ فَكَيْفَ بِفُلَانٍ إِذَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: يَا رَبِّ دَمِي الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَقَالَ جِبْرَائِيلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا سَأَلْتَ رَبَّكَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَئِنْ شِئْتَ لِأَفْعَلَنَّ، فَقَالَ: نَعَمْ، فَعَرَجَ جِبْرِيلُ وَسَجَدَ دَاوُدُ، فَمَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ: قَدْ سَأَلْتُ رَبَّكَ عَزَّ وَجَلَّ يَا دَاوُدُ عَنِ الَّذِي أَرْسَلْتَنِي فِيهِ، فَقَالَ: قُلْ لِدَاوُدَ: إِنَّ اللَّهَ يَجْمَعُكُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: هَبْ لِي دَمَكَ الَّذِي عِنْدَ دَاوُدَ، فَيَقُولُ: هُوَ لَكَ يَا رَبِّ، فَيَقُولُ: فَإِنَّ لَكَ فِي الْجَنَّةِ مَا شِئْتَ وَمَا اشْتَهَيْتَ عِوَضًا». حَدَّثْنَنِي عَلِيُّ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: ثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ جَابِرٍ، عَنْ عَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ: أَنَّ كِتَابَ صَاحِبِ الْبَعْثِ جَاءَ يُنْعِي مَنْ قُتِلَ، فَلَمَّا قَرَأَ دَاوُدُ نَعْيَ رَجُلٍ مِنْهُمْ رَجَعَ، فَلِمَا انْتَهَى إِلَى اسْمِ الرَّجُلِ قَالَ: كَتَبَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ الْمَوْتَ، قَالَ: فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}. يَعْنِي تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) فَعَفَوْنَا عَنْهُ، وَصَفَحْنَا لَهُ عَنْ أَنْ نُؤَاخِذَهُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنَبِهِ ذَلِكَ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} يَقُولُ: وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَلْقُرْبَةَ مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي قَوْلِهِ (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) الذَّنَبَ. وَقَوْلُهُ (وَحُسْنُ مَآبٍ) يَقُولُ: مَرْجِعٌ وَمُنْقَلِبٌ يَنْقَلِبُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (وَحُسْنُ مَآبٍ): أَيْ حُسْنُ مَصِيرٍ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ:. (وَحُسْنُ مَآبٍ) قَالَ: حُسْنُ الْمُنْقَلِبِ. وَقَوْلُهُ {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَقُلْنَا لِدَاوُدَ: يَا دَاوُدُ إِنَّا اسْتَخْلَفْنَاكَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا حَكَمًا بَيْنَ أَهْلِهَا. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً} مَلَّكَهُ فِي الْأَرْضِ {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} يَعْنِي: بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} يَقُولُ: وَلَا تُؤْثِرْ هَوَاكَ فِي قَضَائِكَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْحَقِّ وَالْعَدْلِ فِيهِ، فَتَجُورَ عَنِ الْحَقِّ {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} يَقُولُ: فَيَمِيلُ بِكَ اتِّبَاعُكَ هَوَاكَ فِي قَضَائِكَ عَلَى الْعَدْلِ وَالْعَمَلِ بِالْحَقِّ عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ فِيهِ، فَتَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ بِضَلَالِكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّ الَّذِينَ يَمِيلُونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، وَذَلِكَ الْحَقَّ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْعَمَلِ بِهِ، فَيَجُورُونَ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا، لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ يَوْمَ الْحِسَابِ عَذَابٌ شَدِيدٌ عَلَى ضَلَالِهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِمَا نَسُوا أَمْرَ اللَّهِ، يَقُولُ: بِمَا تَرَكُوا الْقَضَاءَ بِالْعَدْلِ، وَالْعَمَلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ (يَوْمَ الْحِسَابِ) مِنْ صِلَةِ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: ثَنَا هُشَيْمٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْعَوَّامُ، عَنْ عِكْرِمَةَ، فِي قَوْلِهِ {عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} قَالَ: هَذَا مِنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، يَقُولُ: لَهُمْ يَوْمَ الْحِسَابِ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} قَالَ: نَسُوا: تَرَكُوا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًاذَلِكَ ظَنُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا} عَبَثًا وَلَهْوًا، مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا لِيُعْمَلَ فِيهِمَا بِطَاعَتِنَا، وَيُنْتَهَى إِلَى أَمْرِنَا وَنَهْيِنَا. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَقُولُ: أَيْ ظَنُّ أَنَّا خَلَقْنَا ذَلِكَ بَاطِلًا وَلَعِبَا، ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِاللَّهِ فَلَمْ يُوَحِّدُوهُ، وَلَمْ يَعْرِفُوا عَظَمَتَهُ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْبَثَ، فَيَتَيَقَّنُوا بِذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَخْلُقُ شَيْئًا بَاطِلًا. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} يَعْنِي: مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ. وَقَوْلُهُ {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: أَنَجْعَلُ الَّذِينَ صَدَقُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَعَمِلُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَانْتَهَوْا عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} يَقُولُ: كَالَّذِينِ يُشْرِكُونَ بِاللَّهِ وَيَعْصُونَهُ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ. {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ} يَقُولُ: الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ بِطَاعَتِهِ وَرَاقَبُوهُ، فَحَذِرُوا مَعَاصِيَهُ (كَالْفُجَّارِ) يَعْنِي: كَالْكُفَّارِ الْمُنْتَهِكِينَ حُرُمَاتِ اللَّهِ. وَقَوْلُهُ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَهَذَا الْقُرْآنُ {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يَا مُحَمَّدُ {مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} يَقُولُ: لِيَتَدَبَّرُوا حُجَجَ اللَّهِ الَّتِي فِيهِ، وَمَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ شَرَائِعِهِ، فَيَتَّعِظُوا وَيَعْمَلُوا بِهِ. وَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ: (لِيَدَّبَّرُوا) بِالْيَاءِ، يَعْنِي: لِيَتَدَبَّرَ هَذَا الْقُرْآنُ مَنْ أَرْسَلْنَاكَ إِلَيْهِ مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ. وَقِرَاءَةُ أَبُو جَعْفَرٍ وَعَاصِمٍ "لِتَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ" بِالتَّاءِ، بِمَعْنَى: لِتَتَدَبَّرَهُ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ وَأَتْبَاعُكَ. وَأَوْلَى الْقِرَاءَتَيْنِ عِنْدَنَا بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مَشْهُورَتَانِ صَحِيحَتَا الْمَعْنَى، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} يَقُولُ: وَلِيَعْتَبِرَ أُولُو الْعُقُولِ وَالْحِجَا مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مِنَ الْآيَاتِ، فَيَرْتَدِعُوا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمِينَ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَيَنْتَهُوا إِلَى مَا دَلَّهُمْ عَلَيْهِ مِنَ الرَّشَادِ وَسَبِيلِ الصَّوَابِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ (أُولُو الْأَلْبَابِ) قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (أُولُو الْأَلْبَابِ) قَالَ: أُولُو الْعُقُولِ مِنَ النَّاسِ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِشَوَاهِدِهِ، بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ} ابْنَهُ وَلَدًا (نِعْمَ الْعَبْدُ) يَقُولُ: نِعْمَ الْعَبْدُ سُلَيْمَانُ (إِنَّهُ أَوَّابٌ) يَقُولُ: إِنَّهُ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَوَّابٌ إِلَيْهِ مِمَّا يَكْرَهُهُ مِنْهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ عُنِيَ بِهِ أَنَّهُ كَثِيرُ الذِّكْرِ لِلَّهِ وَالطَّاعَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} قَالَ: الْأَوَّابُ: الْمُسَبِّحُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} قَالَ: كَانَ مُطِيعًا لِلَّهِ كَثِيرَ الصَّلَاةِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} قَالَ: الْمُسَبِّحُ. وَالْمُسَبِّحُ قَدْ يَكُونُ فِي الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْأَوَّابِ، وَذَكَرْنَا اخْتِلَافَ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهِ فِيمَا مَضَى بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا. وَقَوْلُهُ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّهُ تَوَّابٌ إِلَى اللَّهِ مِنْ خَطِيئَتِهِ الَّتِي أَخْطَأَهَا، إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ، فَإِذْ مِنْ صِلَةِ أَوَّابٍ، وَالصَّافِنَاتُ: جَمْعُ الصَّافِنِ مِنَ الْخَيْلِ، وَالْأُنْثَى: صَافِنَةٌ، وَالصَّافِنُ مِنْهَا عِنْدَ بَعْضِ الْعَرَبِ: الَّذِي يَجْمَعُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَيَثْنِي طَرَفَ سُنْبُكِ إِحْدَى رِجْلَيْهِ، وَعِنْدَ آخَرِينَ: الَّذِي يَجْمَعُ يَدَيْهِ. وَزَعَمَ الْفَرَّاءُ أَنَّ الصَّافِنَ: هُوَ الْقَائِمُ، يُقَالُ مِنْهُ: صَفَنَتِ الْخَيْلُ تَصْفِنُ صُفُونًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: {الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} قَالَ: صُفُونُ الْفَرَسِ: رَفْعُ إِحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: صَفَنَ الْفَرَسُ: رَفَعَ إِحْدَى يَدَيْهِ حَتَّى يَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} يَعْنِي: الْخَيْلَ، وَصُفُونُهَا: قِيَامُهَا وَبَسْطُهَا قَوَائِمَهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ: الصَّافِنَاتُ، قَالَ: الْخَيْلُ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ) قَالَ: الْخَيْلُ أَخْرَجَهَا الشَّيْطَانُ لِسُلَيْمَانَ، مِنْ مَرْجٍ مِنْ مُرُوجِ الْبَحْرِ. قَالَ: الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ تَصْفِنُ، وَالصَّفْنُ أَنْ تَقُومَ عَلَى ثَلَاثٍ، وَتَرْفَعَ رِجْلًا وَاحِدَةً حَتَّى يَكُونَ طَرَفُ الْحَافِرِ عَلَى الْأَرْضِ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الصَّافِنَاتُ: الْخَيْلُ، وَكَانَتْ لَهَا أَجْنِحَةٌ. وَأَمَّا الْجِيَادُ، فَإِنَّهَا السِّرَاعُ، وَاحِدُهَا: جَوَادٌ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَهُ. ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: الْجِيَادُ: قَالَ: السِّرَاعُ. وَذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا ذَوَاتِ أَجْنِحَةٍ. ذِكْرُ الْخَبَرِ بِذَلِكَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا مُؤَمَّلٌ، قَالَ: ثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، فِي قَوْلِهِ {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} قَالَ: كَانَتْ عِشْرِينَ فَرَسًا ذَاتَ أَجْنِحَةٍ. وَقَوْلُهُ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} وَفِي هَذَا الْكَلَامِ مَحْذُوفٌ اسْتُغْنِيَ بِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ: فَلَهِيَ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى فَاتَتْهُ، فَقَالَ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ}: أَيِّ الْمَالِ وَالْخَيْلِ، أَوِ الْخَيْرِ مِنَ الْمَالِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} قَالَ: الْخَيْلُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} قَالَ: الْمَالُ. وَقَوْلُهُ (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) يَقُولُ: إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ حَتَّى سَهَوْتُ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي وَأَدَاءِ فَرِيضَتِهِ. وَقِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ كَانَ صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) قَالَ. صَلَاةُ الْعَصْرِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: ثَنَا أَبُو زَرْعَةَ، قَالَ: ثَنَا حَيَوَةُ بْنُ شُرَيْحٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَخْرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا مُعَاوِيَةَ الْبَجْلِيَّ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ يَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الصَّهْبَاءِ الْبِكْرِيَّ يَقُولُ: سَأَلْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، عَنِ الصَّلَاةِ الْوُسْطَى، فَقَالَ: هِيَ الْعَصْرُ، وَهِيَ الَّتِي فُتِنَ بِهَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ. وَقَوْلُهُ {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} يَقُولُ: حَتَّى تَوَارَتِ الشَّمْسُ بِالْحِجَابِ، يَعْنِي: تَغَيَّبَتْ فِي مَغِيبِهَا. كَمَا حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، قَالَ: ثَنَا مِيكَائِيلُ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ أَبِي هِنْدٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} قَالَ: تَوَارَتِ الشَّمْسُ مِنْ وَرَاءِ يَاقُوتَةٍ خَضْرَاءَ، فَخُضْرَةُ السَّمَاءِ مِنْهَا. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} حَتَّى دَلَكَتْ بِرَاحٍ. قَالَ قَتَادَةُ: فَوَاللَّهِ مَا نَازَعَتْهُ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَلَا كَابَرُوهُ، وَلَكِنْ وَلَّوْهُ مِنْ ذَلِكَ مَا وَلَّاهُ اللَّهُ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} حَتَّى غَابَتْ. وَقَوْلُهُ (رُدُّوهَا عَلَيَّ) يَقُولُ: رَدُّوا عَلَيَّ الْخَيْلَ الَّتِي عَرَضَتْ عَلَيَّ، فَشَغَلَتْنِي عَنِ الصَّلَاةِ، فَكُرُّوهَا عَلَيَّ. كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (رُدُّوهَا عَلَيَّ) قَالَ: الْخَيْلُ. وَقَوْلُهُ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} يَقُولُ: فَجَعَلَ يَمْسَحُ مِنْهَا السُّوقَ، وَهِيَ جُمَعُ السَّاقِ، وَالْأَعْنَاقَ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى مَسْحِ سُلَيْمَانَ بِسُوقِ هَذِهِ الْخَيْلِ الْجِيَادِ وَأَعْنَاقِهَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَرَهَا وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَسَحَ عِلَاوَتَهُ: إِذَا ضَرَبَ عُنُقَهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ لَا وَاللَّهِ لَا تَشْغَلِينِي عَنْ عِبَادَةِ رَبِّي آخِرَ مَا عَلَيْكَ، قَالَ قَوْلَهُمَا فِيهِ، يَعْنِي قَتَادَةَ وَالْحُسْنَ قَالَ: فَكَسَفَ عَرَاقِيبَهَا، وَضَرَبَ أَعْنَاقَهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} فَضَرَبَ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنُ بَزِيعٍ، قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، عَنْ عَوْفٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: أَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ جَعَلَ يَمْسَحُ أَعْرَافَهَا وَعَرَاقِيبَهَا بِيَدِهِ حُبًّا لَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} يَقُولُ: جَعَلَ يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا: حُبًّا لَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَشْبَهُ بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ، لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ حَيَوَانًا بِالْعَرْقَبَةِ، وَيُهْلِكَ مَالًا مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ سَبَبٍ، سِوَى أَنَّهُ اشْتَغَلَ عَنْ صِلَاتِهِ بِالنَّطْرِ إِلَيْهَا، وَلَا ذَنَبَ لَهَا بِاشْتِغَالِهِ بِالنَّظَرِ إِلَيْهَا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَلَقَدِ ابْتَلَيْنَا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا شَيْطَانَا مُتَمَثِّلًا بِإِنْسَانٍ، ذَكَرُوا أَنَّ اسْمَهُ صَخْرٌ. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ آصِفُ. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ آصِرُ. وَقِيلَ: إِنَّ اسْمَهُ حِبْقِيقُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: هُوَ صَخْرٌ الْجِنِّيُّ تَمَثَّلَ عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنَى أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قَالَ: الْجَسَدُ: الشَّيْطَانُ الَّذِي كَانَ دَفَعَ إِلَيْهِ سُلَيْمَانُ خَاتَمَهُ، فَقَذَفَهُ فِي الْبَحْرِ، وَكَانَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ فِي خَاتَمِهِ، وَكَانَ اسْمُ الْجِنِّيِّ صَخْرًا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: شَيْطَانًا. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ آصِرُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ {عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: شَيْطَانًا يُقَالُ لَهُ آصِفُ، فَقَالَ لَهُ سُلَيْمَانُ: كَيْفَ تَفْتِنُونَ النَّاسَ؟ قَالَ: أَرِنِي خَاتَمَكَ أُخْبِرْكَ. فَلَمَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ نَبَذَهُ آصِفُ فِي الْبَحْرِ، فَسَاحَ سُلَيْمَانُ وَذَهَبَ مُلْكُهُ، وَقَعَدَ آصِفُ عَلَى كُرْسِيِّهِ، وَمَنَعَهُ اللَّهُ نِسَاءَ سُلَيْمَانَ، فَلَمْ يَقْرُبْهُنَّ، وَأَنْكَرْنَهُ، قَالَ: فَكَانَ سُلَيْمَانُ يَسْتَطْعِمُ فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُونِي أَطْعِمُونِي أَنَا سُلَيْمَانُ، فَيُكَذِّبُونَهُ، حَتَّى أَعْطَتْهُ امْرَأَةٌ يَوْمًا حُوتًا يُطَيِّبُ بَطْنَهُ، فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِهِ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ مُلْكُهُ، وَفَرَّ آصِفُ فَدَخَلَ الْبَحْرُ فَارًّا. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ، غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: فَيَقُولُ: لَوْ تَعْرِفُونِي أَطْعَمْتُمُونِي. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} قَالَ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ أَنَّ سَلَيْمَانَ أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَقِيلَ لَهُ: ابْنِهِ وَلَا يَسْمَعُ فِيهِ صَوْتُ حَدِيدٍ، قَالَ: فَطَلَبَ ذَلِكَ فَلَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ شَيْطَانًا فِي الْبَحْرِ يُقَالُ لَهُ صَخْرٌ شِبْهُ الْمَارِدِ، قَالَ: فَطَلَبَهُ، وَكَانَتْ عَيْنٌ فِي الْبَحْرِ يَرُدُّهَا فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً، فَنُزِحَ مَاؤُهَا وَجُعِلَ فِيهَا خَمْرٌ، فَجَاءَ يَوْمُ وُرُودِهِ فَإِذَا هُوَ بِالْخَمْرِ، فَقَالَ: إِنَّكِ لَشَرَابٌ طَيِّبٌ، إِلَّا أَنَّكِ تَصِبِينَ الْحَلِيمَ، وَتَزِيدِينَ الْجَاهِلَ جَهْلًا قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ حَتَّى عَطِشَ عَطَشًا شَدِيدًا، ثُمَّ أَتَاهَا فَقَالَ: إِنَّكِ لَشَرَابٌ طَيِّبٌ، إِلَّا أَنَّكِ تَصِبِينَ الْحَلِيمَ، وَتَزِيدِينَ الْجَاهِلَ جَهْلًا قَالَ: ثُمَّ شَرِبَهَا حَتَّى غَلَبَتْ عَلَى عَقْلِهِ، قَالَ: فَأُرِيَ الْخَاتَمَ أَوْ خُتِمَ بِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَذَلَّ، قَالَ: فَكَانَ مُلْكُهُ فِي خَاتَمِهِ، فَأَتَى بِهِ سُلَيْمَانُ، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ أَمَرْنَا بِبِنَاءِ هَذَا الْبَيْتِ. وَقِيلَ لَنَا: لَا يُسْمَعَنَّ فِيهِ صَوْتُ حَدِيدٍ، قَالَ: فَأَتَى بِبَيْضِ الْهُدْهُدِ، فَجَعَلَ عَلَيْهِ زُجَاجَةً، فَجَاءَ الْهُدْهُدُ، فَدَارَ حَوْلَهَا، فَجَعَلَ يَرَى بَيْضَهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ فَجَاءَ بِالْمَاسِ، فَوَضَعَهُ عَلَيْهِ، فَقَطَعَهَا بِهِ حَتَّى أَفْضَى إِلَى بَيْضِهِ، فَأَخَذَ الْمَاسَ، فَجَعَلُوا يَقْطَعُونَ بِهِ الْحِجَارَةَ، فَكَانَ سُلَيْمَانُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ أَوِ الْحَمَّامَ لَمْ يَدْخُلْهَا بِخَاتَمِهِ، فَانْطَلَقَ يَوْمًا إِلَى الْحَمَّامِ، وَذَلِكَ الشَّيْطَانُ صَخْرٌ مَعَهُ، وَذَلِكَ عِنْدَ مُقَارَفَةِ ذَنْبٍ قَارَفَ فِيهِ بَعْضَ نِسَائِهِ، قَالَ: فَدَخَلَ الْحَمَّامَ، وَأَعْطَى الشَّيْطَانَ خَاتَمَهُ، فَأَلْقَاهُ فِي الْبَحْرِ، فَالْتَقَمَتْهُ سَمَكَةٌ، وَنُزِعَ مُلْكُ سُلَيْمَانَ مِنْهُ، وَأُلْقِي عَلَى الشَّيْطَانِ شِبْهِ سُلَيْمَانَ، قَالَ: فَجَاءَ فَقُعِدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ وَسَرِيرِهِ، وَسُلِّطَ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ كُلِّهِ غَيْرَ نِسَائِهِ، قَالَ: فَجَعَلَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ، وَجَعَلُوا يُنْكِرُونَ مِنْهُ أَشْيَاءَ حَتَّى قَالُوا: لَقَدْ فُتِنَ نَبِيُّ اللَّهِ، وَكَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ يُشَبِّهُونَهُ بِعُمَرَ بْنِ الْخُطَّابِ فِي الْقُوَّةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لِأُجَرِّبَنَّهُ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، وَهُوَ يَرَى إِلَّا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ، أَحَدُنَا تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ فِي اللَّيْلَةِ الْبَارِدَةِ، فَيَدَعُ الْغَسْلَ عَمْدًا حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، أَتَرَى عَلَيْهِ بَأْسًا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً حَتَّى وَجَدَ نَبِيُّ اللَّهِ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِ سَمَكَةٍ، فَأَقْبَلَ فَجَعَلَ لَا يَسْتَقْبِلُهُ جِنِّيٌّ وَلَا طَيْرٌ إِلَّا سَجَدَ لَهُ، حَتَّى انْتَهَى إِلَيْهِمْ {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: هُوَ الشَّيْطَانُ صَخْرٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} قَالَ: لَقَدِ ابْتَلَيْنَا {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا} قَالَ: الشَّيْطَانُ حِينَ جَلَسَ عَلَى كُرْسِيِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، قَالَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ مِئَةُ امْرَأَةٍ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ يُقَالُ لَهَاجَرَادَةُ، وَهِيَ آثَرَ نِسَائِهِ عِنْدَهُ، وَآمَنُهُنَّ عِنْدَهُ، وَكَانَ إِذَا أَجْنَبَ أَوْ أَتَى حَاجَةً نَزَعَ خَاتَمَهُ، وَلَمْ يَأْتَمِنْ عَلَيْهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ غَيْرَهَا، فَجَاءَتْهُ يَوْمًا مِنَ الْأَيَّامِ، فَقَالَتْ: إِنَّ أَخِي بَيْنِهِ وَبَيْنَ فُلَانٍ خُصُومَةٌ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَقْضِيَ لَهُ إِذَا جَاءَكَ، فَقَالَ لَهَا: نَعَمْ، وَلَمْ يَفْعَلْ، فَابْتُلِيَ وَأَعْطَاهَا خَاتَمَهُ، وَدَخَلَ الْمَخْرَجَ، فَخَرَجَ الشَّيْطَانُ فِي صُورَتِهِ، فَقَالَ لَهَا: هَاتِي الْخَاتَمَ، فَأَعْطَتْهُ، فَجَاءَ حَتَّى جَلَسَ عَلَى مَجْلِسِ سُلَيْمَانَ، وَخَرَجَ سُلَيْمَانُ بَعْدُ، فَسَأَلَهَا أَنْ تُعْطِيَهُ خَاتَمَهُ، فَقَالَتْ: أَلَمْ تَأْخُذْهُ قَبْلُ؟ قَالَ: لَا وَخَرَجَ مَكَانَهُ تَائِهًا، قَالَ: وَمَكَثَ الشَّيْطَانُ يَحْكُمُ بَيْنَ النَّاسِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. قَالَ: فَأَنْكَرَ النَّاسُ أَحْكَامَهُ، فَاجْتَمَعَ قُرَّاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَعُلَمَاؤُهُمْ، فَجَاءُوا حَتَّى دَخَلُوا عَلَى نِسَائِهِ، فَقَالُوا: إِنَّا قَدْ أَنْكَرْنَا هَذَا، فَإِنْ كَانَ سُلَيْمَانُ فَقَدْ ذَهَبَ عَقْلُهُ، وَأَنْكَرْنَا أَحْكَامَهُ. قَالَ: فَبَكَى النِّسَاءُ عِنْدَ ذَلِكَ، قَالَ: فَأَقْبَلُوا يَمْشُونَ حَتَّى أَتَوْهُ، فَأَحْدَقُوا بِهِ، ثُمَّ نَشَرُوا التَّوْرَاةَ، فَقَرَءُوا، قَالَ: فَطَارَ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَى شُرْفَةٍ وَالْخَاتَمُ مَعَهُ، ثُمَّ طَارَ حَتَّى ذَهَبَ إِلَى الْبَحْرِ، فَوَقَعَ الْخَاتَمُ مِنْهُ فِي الْبَحْرِ، فَابْتَلَعَهُ حُوتٌ مِنْ حِيتَانِ الْبَحْرِ. قَالَ: وَأَقْبَلَ سُلَيْمَانُ فِي حَالِهِ الَّتِي كَانَ فِيهَا حَتَّى انْتَهَى إِلَى صَيَّادٍ مِنْ صَيَّادِي الْبَحْرِ وَهُوَ جَائِعٌ، وَقَدِ اشْتَدَّ جُوعُهُ، فَاسْتَطْعَمَهُمْ مِنْ صَيْدِهِمْ، قَالَ: إِنِّي أَنَا سُلَيْمَانُ، فَقَامَ إِلَيْهِ بَعْضُهُمْ فَضَرَبَهُ بِعَصًا فَشَجَّهُ، فَجَعْلَ يَغْسِلُ دَمَهُ وَهُوَ عَلَى شَاطِئِ الْبَحْرِ، فَلَامَ الصَّيَّادُونَ صَاحِبَهُمُ الَّذِي ضَرَبَهُ، فَقَالُوا: بِئْسَ مَا صَنَعْتَ حَيْثُ ضَرَبْتَهُ، قَالَ: إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ، قَالَ: فَأَعْطَوْهُ سَمَكَتَيْنِ مِمَّا قَدْ مَذِرَ عِنْدَهُمْ، وَلَمْ يَشْغَلْهُ مَا كَانَ بِهِ مِنَ الضَّرَرِ، حَتَّى قَامَ إِلَى شَطِّ الْبَحْرِ، فَشَقَّ بُطُونَهُمَا، فَجَعَلَ يَغْسِلُ...، فَوَجَدَ خَاتَمَهُ فِي بَطْنِ إِحْدَاهُمَا، فَأَخَذَهُ فَلَبِسَهُ، فَرَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَهَاءَهُ وَمَلَكَهُ، وَجَاءَتِ الطَّيْرُ حَتَّى حَامَتْ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ الْقَوْمُ أَنَّهُ سُلَيْمَانُ، فَقَامَ الْقَوْمُ يَعْتَذِرُونَ مِمَّا صَنَعُوا، فَقَالَ: مَا أَحْمَدُكُمْ عَلَى عُذْرِكُمْ، وَلَا أَلُومُكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، كَانَ هَذَا الْأَمْرُ لَا بُدَّ مِنْهُ، قَالَ: فَجَاءَ حَتَّى أَتَى مُلْكَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى الشَّيْطَانِ فَجِيءَ بِهِ، وَسُخِّرَ لَهُ الرِّيحُ وَالشَّيَاطِينُ يَوْمَئِذٍ، وَلَمْ تَكُنْ سُخِّرَتْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهُوَ قَوْلُهُ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} قَالَ: وَبَعَثَ إِلَى الشَّيْطَانِ، فَأُتِيَ بِهِ، فَأَمَرَ بِهِ فَجَعَلَ فِي صُنْدُوقٍ مِنْ حَدِيدٍ، ثُمَّ أَطْبَقَ عَلَيْهِ فَأَقْفَلَ عَلَيْهِ بِقُفْلٍ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَاتَمِهِ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ، فَأُلْقِي فِي الْبَحْرِ، فَهُوَ فِيهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَكَانَ اسْمُهُ حِبْقِيقُ. وَقَوْلُهُ (ثُمَّ أَنَابَ) سُلَيْمَانُ، فَرَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ مِنْ بَعْدِ مَا زَالَ عَنْهُ مُلْكُهُ فَذَهَبَ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ (ثُمَّ أَنَابَ) قَالَ: دَخَلَ سُلَيْمَانُ عَلَى امْرَأَةٍ تَبِيعُ السَّمَكَ، فَاشْتَرَى مِنْهَا سَمَكَةً، فَشَقَّ بَطْنَهَا، فَوَجَدَ خَاتَمَهُ، فَجَعَلَ لَا يَمُرُّ عَلَى شَجَرٍ وَلَا حَجَرٍ وَلَا شَيْءٍ إِلَّا سَجَدَ لَهُ، حَتَّى أَتَى مُلْكَهُ وَأَهْلَهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ، (ثُمَّ أَنَابَ) يَقُولُ: ثُمَّ رَجَعَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (ثُمَّ أَنَابَ) وَأَقْبَلَ، يَعْنِي سُلَيْمَانَ. قَوْلُهُ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: قَالَ سُلَيْمَانُ رَاغِبًا إِلَى رَبِّهِ: رَبِّ اسْتُرْ عَلَيَّ ذَنْبِي الَّذِي أَذْنَبْتُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَلَا تُعَاقِبْنِي بِهِ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} لَا يَسْلُبُنِيهِ أَحَدٌ كَمَا سَلَبَنِيهِ قَبْلَ هَذِهِ الشَّيْطَانُ. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} يَقُولُ: مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ كَمَا سُلِبْتُهُ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ يُوَجِّهُ مَعْنَى قَوْلِهِ {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} إِلَى: أَنْ لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي، كَمَا قَالَ ابْنُ أَحْمَرَ: مَا أُمُّ غُفْرٍ عَلَى دَعْجَاءَ ذِي عَلَقٍ *** يَنْفِي الْقَرَامِيدَ عَنْهَا الْأَعْصَمُ الْوَقِلُ فِي رَأْسِ حَلْقَاءَ مِنْ عَنْقَاءَ مُشْرِفَةً *** لَا يَنْبَغِي دُونَهَا سَهْلٌ وَلَا جَبَلُ بِمَعْنَى: لَا يَكُونُ فَوْقَهَا سَهْلٌ وَلَا جَبَلٌ أَحْصَنُ مِنْهَا. وَقَوْلُهُ {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} يَقُولُ: إِنَّكَ وَهَّابٌ مَا تَشَاءُ لِمَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ خَزَائِنُ كُلِّ شَيْءٍ تَفْتَحُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَرَدْتَ لِمَنْ أَرَدْتَ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ وَالشَّيَاطِينَ كُلَ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ دُعَاءَهُ، فَأَعْطَيْنَاهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ (فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ) مَكَانَ الْخَيْلِ الَّتِي شَغَلَتْهُ عَنِ الصَّلَاةِ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} يَعْنِي: رِخْوَةً لَيِّنَةً، وَهِيَ مِنَ الرَّخَاوَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَزِيعٍ، قَالَ: ثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا عَوْفٌ، عَنِ الْحَسَنِ، أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ سُلَيْمَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ، فَشَغَلَهُ النَّظَرُ إِلَيْهَا عَنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} فَغَضِبَ لِلَّهِ، فَأَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ، فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ مَكَانَهَا أَسْرَعَ مِنْهَا، سَخَّرَ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ شَاءَ، فَكَانَ يَغْدُو مِنْ إِيلِيَاءَ، وَيَقِيلُ بِقَزْوِينَ، ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ قَزْوِينَ وَيَبِيتُ بِكَابُلَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فَإِنَّهُ دَعَا يَوْمَ دَعَا وَلَمْ يَكُنْ فِي مُلْكِهِ الرِّيحُ، وَكُلُّ بِنَاءٍ وَغَوَّاصٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، فَدَعَا رَبَّهُ عِنْدَ تَوْبَتِهِ وَاسْتِغْفَارِهِ، فَوَهَبَ اللَّهُ لَهُ مَا سَأَلَ، فَتَمَّ مُلْكُهُ. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى الرُّخَاءِ، فَقَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ نَحْوَ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} قَالَ: طَيِّبَةٌ. حَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِنَحْوِهِ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} قَالَ: سَرِيعَةٌ طَيِّبَةٌ، قَالَ: لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ وَلَا بَطِيئَةٍ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (رُخَاءً) قَالَ: الرَّخَاءُ اللَّيِّنَةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَامِرٍ، قَالَ: ثَنَا قُرَّةُ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} قَالَ: لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، وَلَا الْهَيِّنَةِ بَيْنَ ذَلِكَ رُخَاءٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: مُطِيعَةٌ لِسُلَيْمَانَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (رُخَاءً) يَقُولُ: مُطِيعَةٌ لَهُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} قَالَ: يَعْنِي بِالرُّخَاءِ: الْمُطِيعَةَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} قَالَ: مُطِيعَةٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (رُخَاءً) يَقُولُ: مُطِيعَةٌ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (رُخَاءً) قَالَ: طَوْعًا. وَقَوْلُهُ (حَيْثُ أَصَابَ) يَقُولُ: حَيْثُ أَرَادَ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَصَابَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا: أَيْ أَرَادَ اللَّهُ بِكَ خَيْرًا. وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (حَيْثُ أَصَابَ) يَقُولُ: حَيْثُ أَرَادَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (حَيْثُ أَصَابَ) يَقُولُ: حَيْثُ أَرَادَ، انْتَهَى عَلَيْهَا. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ. ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَوْلُهُ (حَيْثُ أَصَابَ) قَالَ: حَيْثُ شَاءَ. حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُثَنَّى، قَالَ: ثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ أَبِي رَجَاءٍ، عَنِ الْحَسَنِ، فِي قَوْلِهِ (حَيْثُ أَصَابَ) قَالَ: حَيْثُ أَرَادَ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ (حَيْثُ أَصَابَ) قَالَ: إِلَى حَيْثُ أَرَادَ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (حَيْثُ أَصَابَ) قَالَ: حَيْثُ أَرَادَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ (حَيْثُ أَصَابَ): أَيْ حَيْثُ أَرَادَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ (حَيْثُ أَصَابَ) قَالَ: حَيْثُ أَرَادَ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ (حَيْثُ أَصَابَ) قَالَ: حَيْثُ أَرَادَ. وَقَوْلُهُ {وَالشَّيَاطِينَ كُلَ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: وَسَخَّرْنَا لَهُ الشَّيَاطِينَ سَلَّطْنَاهُ عَلَيْهَا مَكَانَ مَا ابْتَلَيْنَاهُ بِالَّذِي أَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ مِنْهَا يَسْتَعْمِلُهَا فِيمَا يَشَاءُ مِنْ أَعْمَالِهِ مِنْ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ، فَالْبُنَاةُ مِنْهَا يَصْنَعُونَ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ، وَالْغَاصَّةُ يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ الْحُلِيَّ مِنَ الْبِحَارِ، وَآخَرُونَ يَنْحِتُونَ لَهُ جِفَانًا وَقُدُورًا، وَالْمَرَدَةُ فِي الْأَغْلَالِ مُقَرَّنُونَ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} قَالَ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ، وَغَوَّاصٍ يَسْتَخْرِجُونَ الْحُلِيَّ مِنَ الْبَحْرِ {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} قَالَ: مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ فِي الْأَغْلَالِ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {وَالشَّيَاطِينَ كُلَ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} قَالَ: لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مُلْكِ دَاوُدَ، أَعْطَاهُ اللَّهُ مُلْكَ دَاوُدَ وَزَادَهُ الرِّيحَ {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} يَقُولُ: فِي السَّلَاسِلِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ (الْأَصْفَادِ) قَالَ: تَجْمَعُ الْيَدَيْنِ إِلَى عُنُقِهِ، وَالْأَصْفَادُ: جَمْعُ صَفَدٍ وَهِيَ الْأَغْلَالُ. وَقَوْلُهُ {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ (هَذَا) مِنَ الْعَطَاءِ، وَأَيِّ عَطَاءٍ أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: عَطَاؤُنَا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عُنِيَ بِهِ الْمُلْكُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: الْمُلْكُ الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ فَأَعْطِ مَا شِئْتَ وَامْنَعْ مَا شِئْتَ. حَدَّثَنَا عَنِ الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ (هَذَا عَطَاؤُنَا): هَذَا مُلْكُنَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ تَسْخِيرَهُ لَهُ الشَّيَاطِينَ، وَقَالُوا: وَمَعْنَى الْكَلَامِ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ مِنْ كُلِّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَغَيْرِهِمْ عَطَاؤُنَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينُ احْبِسْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فَى وِثَاقِكَ وَفِي عَذَابِكَ أَوْ سَرِّحْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ تَتَّخِذُ عِنْدَهُ يَدًا، اصْنَعْ مَا شِئْتَ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مَا كَانَ أُوتِيَ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ طَرِيفٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كَانَ سُلَيْمَانُ فِي ظَهْرِهِ مَاءُ مِئَةِ رَجُلٍ، وَكَانَ لَهُ ثَلَاثُ مِئَةِ امْرَأَةٍ وَتِسْعُ مِئَةِ سُرِّيَّةٍ {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي بِالصَّوَابِ الْقَوْلُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ الْحُسْنِ وَالضَّحَّاكِ مِنْ أَنَّهُ عُنِِيَ بِالْعَطَاءِ مَا أَعْطَاهُ مِنَ الْمُلْكِ تَعَالَى ذِكْرُهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَكَرَ ذَلِكَ عَقِيبَ خَبَرِهِ عَنْ مَسْأَلَةِ نَبِيِّهِ سُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ إِيَّاهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَهُ مَا لَمْ يُسَخِّرْ لِأَحَدٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، وَذَلِكَ تَسْخِيرُهُ لَهُ الرِّيحَ وَالشَّيَاطِينَ عَلَى مَا وَصَفْتُ، ثُمَّ قَالَ لَهُ عَزَّ ذِكْرُهُ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الْمُلْكِ، وَتَسْخِيرُنَا مَا سَخَّرْنَا لَكَ عَطَاؤُنَا، وَوَهْبُنَا لَكَ مَا سَأَلْتَنَا أَنْ نَهَبَهُ لَكَ مِنَ الْمُلْكِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِكَ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وَاخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ فَأَعْطِ مَنْ شِئْتَ مَا شِئْتَ مِنَ الْمُلْكِ الَّذِي آتَيْنَاكَ، وَامْنَعْ مَا شِئْتَ مِنْهُ مَا شِئْتَ، لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الْمُلْكُ الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ، فَأَعْطِ مَا شِئْتَ وَامْنَعْ مَا شِئْتَ، فَلَيْسَ عَلَيْكَ تَبِعَةٌ وَلَا حِسَابٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْمُحَارِبِيِّ، عَنْ جُوَيْبِرٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} سَأَلَ مُلْكًا هَنِيئًا لَا يُحَاسَبُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ: مَا أَعْطَيْتَ، وَمَا أَمْسَكْتَ، فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ. حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عِكْرِمَةَ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: أَعْطِ أَوْ أَمْسِكْ، فَلَا حِسَابَ عَلَيْكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (فَامْنُنْ) قَالَ: أَعْطِ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: أَعْتِقْ مِنْ هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ سَخَّرْنَاهُمْ لَكَ مِنَ الْخِدْمَةِ، أَوْ مِنَ الْوَثَاقِ مِمَّنْ كَانَ مِنْهُمْ مُقَرَّنًا فِي الْأَصْفَادِ مَنْ شِئْتَ وَاحْبِسْ مَنْ شِئْتَ فَلَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يَقُولُ: هَؤُلَاءِ الشَّيَاطِينُ احْبِسْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ فِي وَثَاقِكَ وَفِي عَذَابِكَ، وَسَرِّحْ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ تَتَّخِذُ عِنْدَهُ يَدًا، اصْنَعْ مَا شِئْتَ لَا حِسَابَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يَقُولُ: أَعْتِقْ مِنَ الْجِنِّ مَنْ شِئْتَ، وَأَمْسِكْ مَنْ شِئْتَ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} قَالَ: تَمُنُّ عَلَى مَنْ تَشَاءُ مِنْهُمْ فَتُعْتِقُهُ، وَتُمْسِكُ مَنْ شِئْتَ فَتَسْتَخْدِمُهُ لَيْسَ عَلَيْكَ فِي ذَلِكَ حِسَابٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: هَذَا الَّذِي أَعْطَيْنَاكَ مِنَ الْقُوَّةِ عَلَى الْجِمَاعِ عَطَاؤُنَا، فَجَامِعْ مَنْ شِئْتَ مِنْ نِسَائِكَ وَجَوَارِيكَ مَا شِئْتَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَاتْرُكْ جِمَاعَ مَنْ شِئْتَ مِنْهُنَّ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ ذَلِكَ مِنَ الْمُقَدَّمِ وَالْمُؤَخَّرِ. وَمَعْنَى الْكَلَامِ: هَذَا عَطَاؤُنَا بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ. وَذُكِرَ أَنَّ ذَلِكَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "هَذَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ عَطَاؤُنَا بِغَيْرِ حِسَابٍ". وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ (بِغَيْرِ حِسَابٍ) وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: بِغَيْرِ جَزَاءٍ وَلَا ثَوَابٍ، وَالْآخَرُ: مِنَّةٍ وَلَا قِلَّةٍ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرْتُهُ عَنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ: لَا يُحَاسَبُ عَلَى مَا أُعْطَى مِنْ ذَلِكَ الْمُلْكِ وَالسُّلْطَانِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ هُوَ الصَّوَابُ لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} يَقُولُ: وَإِنَّ لِسُلَيْمَانَ عِنْدَنَا لَقُرْبَةً بِإِنَابَتِهِ إِلَيْنَا وَتَوْبَتِهِ وَطَاعَتِهِ لَنَا، وَحُسْنَ مَآبٍ: يَقُولُ: وَحُسْنُ مَرْجَعٍ وَمَصِيرٍ فِي الْآخِرَةِ. كَمَا حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}: أَيْ مَصِيرٍ. إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ رَغْبَةِ سُلَيْمَانَ إِلَى رَبِّهِ فِي الْمُلْكِ، وَهُوَ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا يَرْغَبُ فِي الْمُلْكِ أَهْلُ الدُّنْيَا الْمُؤْثِرُونَ لَهَا عَلَى الْآخِرَةِ؟ أَمْ مَا وَجْهُ مَسْأَلَتِهِ إِيَّاهُ، إِذْ سَأَلَهُ ذَلِكَ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَمَا كَانَ يَضُرُّهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ مَنْ بَعْدِهِ يُؤْتَى مِثْلَ الَّذِي أُوتِيَ مِنْ ذَلِكَ؟ أَكَانَ بِهِ بُخْلٌ بِذَلِكَ، فَلَمْ يَكُنْ مِنْ مُلْكِهِ، يُعْطَى ذَلِكَ مِنْ يُعْطَاهُ، أَمْ حَسَدٌ لِلنَّاسِ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفَ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ قَرَأَقَوْلَهُ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}فَقَالَ: إِنْ كَانَ لَحَسُودًا، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْأَنْبِيَاءِ! قِيلَ: أَمَّا رَغْبَتُهُ إِلَى رَبِّهِ فِيمَا يَرْغَبُ إِلَيْهِ مِنَ الْمُلْكِ، فَلَمْ تَكُنْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِهِ رَغْبَةٌ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِنْ إِرَادَةٌ مِنْهُ أَنْ يَعْلَمَ مَنْزِلَتَهُ مِنَ اللَّهِ فَى إِجَابَتِهِ فِيمَا رَغِبَ إِلَيْهِ فِيهِ، وَقَبُولِهِ تَوْبَتَهُ، وَإِجَابَتِهِ دُعَاءَهُ. وَأَمَّا مَسْأَلَتُهُ رَبَّهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، فَإِنَّا قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَضَى قَبْلُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: هَبْ لِي مُلْكًا لَا أُسْلَبُهُ كَمَا سُلِبْتُهُ قَبْلُ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ: هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي أَنْ يَسْلُبَنِيهِ. وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ سِوَايَ مِنْ أَهْلِ زَمَانِي، فَيَكُونُ حُجَّةً وَعَلَمًا لِي عَلَى نُبُوَّتِي وَأَنِّي رَسُولُكَ إِلَيْهِمْ مَبْعُوثٌ، إِذْ كَانَتِ الرُّسُلُ لَا بُدَّ لَهَا مِنْ أَعْلَامٍ تُفَارِقُ بِهَا سَائِرَ النَّاسِ سِوَاهُمْ. وَيَتَّجِهُ أَيْضًا لِأَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: وَهَبْ لِي مُلْكًا تَخُصُّنِي بِهِ، لَا تُعْطِيهِ أَحَدًا غَيْرِي تَشْرِيفًا مِنْكَ لِي بِذَلِكَ، وَتَكْرِمَةً، لِتُبَيِّنَ مَنْزِلَتِي مِنْكَ بِهِ مِنْ مَنَازِلِ مَنْ سِوَايَ، وَلَيْسَ فِي وَجْهٍ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ مِمَّا ظَنَّهُ الْحَجَّاجُ فِي مَعْنَى ذَلِكَ شَيْءٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَاذْكُرْ) أَيْضًا يَا مُحَمَّدُ {عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} مُسْتَغِيثًا بِهِ فِيمَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ: يَا رَبِّ {أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} فَاخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (بِنُصْبٍ) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ خَلَا أَبِي جَعْفَرٍ الْقَارِئِ: (بِنُصْبٍ) بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَقَرَأَ ذَلِكَ أَبُو جَعْفَرٍ: بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ كِلَيْهِمَا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْهُ بِفَتْحِ النُّونِ وَالصَّادِ، وَالنُّصْبُ وَالنَّصَبُ بِمَنْزِلَةِ الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ، وَالْعُدْمِ وَالْعَدَمِ، وَالرُّشْدِ وَالرَّشَدِ، وَالصُّلْبِ وَالصَّلَبِ. وَكَانَ الْفَرَّاءُ يَقُولُ: إِذَا ضُمَّ أَوَّلُهُ لَمْ يَثْقُلْ، لِأَنَّهُمْ جَعَلُوهُمَا عَلَى سِمَتَيْنِ: إِذَا فَتَحُوا أَوَّلَهُ ثَقَّلُوا، وَإِذَا ضَمُّوا أَوَّلَهُ خَفَّفُوا. قَالَ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ الْعَرَبِ: لَئِنْ بَعَثَتْ أُمُّ الْحُمَيْدَيْنِ مَائِرًا *** لَقَدْ غَنِيَتْ فِي غَيْرِ بُؤْسٍ وَلَا جُحْدِ مِنْ قَوْلِهِمْ: جَحِدَ عَيْشُهُ: إِذَا ضَاقَ وَاشْتَدَّ، قَالَ: فَلَمَّا قَالَ جُحْدٌ خَفَّفَ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ: النُّصُبُ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَنْصَبَنِي: عَذَّبَنِي وَبَرَّحَ بِي. قَالَ: وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: نَصَبَنِي، وَاسْتَشْهَدَ لِقِيلِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِ بِشْرِ بْنِ أَبِي خَازِمٍ: تَعَنَّاكَ نَصْبٌ مِنْ أُمَيْمَةَ مُنْصِبُ *** كَذِي الشَّجْوِ لَمَّا يَسْلُهُ وَسَيَذْهَبُ وَقَالَ: يَعْنِي بِالنَّصْبِ: الْبَلَاءَ وَالشَّرَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ: كِلِينِي لِهَمٍّ يَا أُمَيْمَةَ نَاصِبِ *** وَلَيْلٍ أُقَاسِيهِ بَطِيءِ الْكَوَاكِبِ حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ آدَمَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو قُتَيْبَةَ، قَالَ: ثَنَا أَبُو هِلَالٍ، قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ) فَرَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، ثُمَّ مَشَى نَحْوًا مِنْ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا، ثُمَّ رَكَضَ بِرِجْلِهِ، فَنَبَعَتْ عَيْنٌ، فَشَرِبَ مِنْهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}. وَعَنَى بِقَوْلِهِ (مُغْتَسَلٌ): مَا يُغْتَسَلُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ، يُقَالُ مِنْهُ: هَذَا مُغْتَسَلٌ، وَغَسُولٌ لِلَّذِي يَغْتَسِلُ بِهِ مِنَ الْمَاءِ. وَقَوْلُهُ (وَشَرَابٌ) يَعْنِي: وَيَشْرَبُ مِنْهُ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يُغْتَسَلُ فِيهِ يُسَمَّى مُغْتَسِلًا.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}. اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} وَقَدْ ذَكَرْنَا اخْتِلَافَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ عِنْدَنَا فِيهِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ. فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ: فَاغْتَسَلَ وَشَرِبَ، فَفَرَجْنَا عَنْهُ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ، مِنْ زَوْجَةٍ وَوَلَدٍ {وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا} لَهُ وَرَأْفَةً (وَذِكْرَى) يَقُولُ: وَتَذْكِيرًا لِأُولِي الْعُقُولِ، لِيَعْتَبِرُوا بِهَا فَيَتَّعِظُوا. وَقَدْ حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي نَافِعُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " «إِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ أَيُّوبَ لَبِثَ بِهِ بَلَاؤُهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَرَفَضَهُ الْقَرِيبُ وَالْبَعِيدُ، إِلَّا رَجُلَانِ مِنْ إِخْوَانِهِ كَانَا مِنْ أَخَصِّ إِخْوَانِهِ بِهِ، كَانَا يَغْدُوَانِ إِلَيْهِ وَيَرُوحَانِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: تَعْلَمُ وَاللَّهِ لَقَدْ أَذْنَبَ أَيُّوبُ ذَنْبًا مَا أَذْنَبَهُ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ، قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: مِنْ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَرْحَمْهُ اللَّهُ فَيَكْشِفَ مَا بِهِ، فَلَمَّا رَاحَا إِلَيْهِ لَمْ يَصْبِرِ الرَّجُلُ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ أَيُّوبُ: لَا أَدْرِي مَا تَقُولُ، غَيْرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ أَمُرُّ عَلَى الرُّجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فَيَذْكُرَانِ اللَّهَ، فَأَرْجِعَ إِلَى بَيْتِي فَأُكَفِّرُ عَنْهُمَا كَرَاهِيَةً أَنْ يُذْكَرَ اللَّهُ إِلَّا فِي حَقٍّ، قَالَ: وَكَانَ يَخْرُجُ إِلَى حَاجَتِهِ، فَإِذَا قَضَاهَا أَمْسَكَتِ امْرَأَتُهُ بِيَدِهِ حَتَّى يَبْلُغَ فَلَمَّا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَبْطَأَ عَلَيْهَا، وَأُوحِيَ إِلَى أَيُّوبَ فِي مَكَانِهِ: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} فَاسْتَبْطَأْتَهُ، فَتَلَقَّتْهُ تَنْظُرُ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهَا قَدْ أَذْهَبَ اللَّهُ مَا بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَهُوَ عَلَى أَحْسَنِ مَا كَانَ، فَلَمَّا رَأَتْهُ قَالَتْ: أَيْ بَارَكَ اللَّهُ فِيكَ، هَلْ رَأَيْتَ نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْمُبْتَلَى، فَوَاللَّهِ عَلَى ذَلِكَ مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَشْبَهَ بِهِ مِنْكَ إِذْ كَانَ صَحِيحًا؟ قَالَ: فَإِنِّي أَنَا هُوَ، قَالَ: وَكَانَ لَهُ أَنْدَرَانِ: أَنْدَرٌ لِلْقَمْحِ، وَأَنْدَرٌ لِلشَّعِيرِ، فَبَعَثَ اللَّهُ سَحَابَتَيْنِ، فَلَمَّا كَانَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى أَنْدَرِ الْقَمْحِ، أَفْرَغَتْ فِيهِ الذَّهَبَ حَتَّى فَاضَ، وَأَفْرَغَتِ الْأُخْرَى فِي أَنْدَرِ الشَّعِيرِ الْوَرِقَ حَتَّى فَاض» ". حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ بِأَعْيَانِهِمْ، وَزَادَهُمْ مِثْلَهُمْ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ، قَالَ: ثَنَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، قَالَ: لَمَّا ابْتُلِيَ نَبِيُّ اللَّهِ أَيُّوبُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَالِهِ وَوَلَدِهِ وَجَسَدِهِ، وَطُرِحَ فِي مَزْبَلَةٍ، جَعَلَتِ امْرَأَتُهُ تَخْرُجُ تَكَسَبُ عَلَيْهِ مَا تُطْعِمُهُ، فَحَسَدَهُ الشَّيْطَانُ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَأْتِي أَصْحَابَ الْخُبْزِ وَالشَّوِيِّ الَّذِينَ كَانُوا يَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهَا، فَيَقُولُ: اطْرُدُوا هَذِهِ الْمَرْأَةَ الَّتِي تَغْشَاكُمْ، فَإِنَّهَا تُعَالِجُ صَاحِبَهَا وَتَلْمِسُهُ بِيَدِهَا، فَالنَّاسُ يَتَقَذَّرُونَ طَعَامَكُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا تَأْتِيكُمْ وَتَغْشَاكُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ يَلْقَاهَا إِذَا خَرَجَتْ كَالْمَحْزُونِ لِمَا لَقِيَ أَيُّوبُ، فَيَقُولُ: لَجَّ صَاحِبُكِ، فَأَبَى إِلَّا مَا أَتَى، فَوَاللَّهِ لَوْ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَكُشِفَ عَنْهُ كُلُّ ضُرٍّ، وَلَرَجِعَ إِلَيْهِ مَالُهُ وَوَلَدُهُ، فَتَجِيءُ، فَتُخْبِرُ أَيُّوبَ، فَيَقُولُ لَهَا: لَقِيَكِ عَدُوُّ اللَّهِ فَلَقَّنَكِ هَذَا الْكَلَامَ، وَيْلَكِ، إِنَّمَا مَثَلُكِ كَمَثَلِ الْمَرْأَةِ الزَّانِيَةِ إِذَا جَاءَ صَدِيقُهَا بِشَيْءٍ قَبِلَتْهُ وَأَدْخَلَتْهُ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِهَا بِشَيْءٍ طَرَدَتْهُ، وَأَغْلَقَتْ بَابَهَا عَنْهُ! لَمَّا أَعْطَانَا اللَّهُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ آمَنَّا بِهِ، وَإِذَا قَبَضَ الَّذِي لَهُ مِنَّا نَكْفُرُ بِهِ، وَنُبَدِّلُ غَيْرَهُ! إِنَّ أَقَامَنِي اللَّهُ مِنْ مَرَضِي هَذَا لِأَجْلِدَنَّكِ مِئَةً، قَالَ: فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ}. وَقَوْلُهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} يَقُولُ: وَقُلْنَا لِأَيُّوبَ: خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا، وَهُوَ مَا يُجْمَعُ مِنْ شَيْءٍ مِثْلِ حُزْمَةِ الرُّطْبِةِ، وَكَمَلْءِ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ وَالشَّمَارِيخِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَامَ عَلَى سَاقٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ عَوْفُ بْنُ الْخَرِعِ: وَأَسْفَلُ مِنِّي نَهْدَةٌ قَدْ رَبَطْتُهَا *** وَأَلْقَيْتُ ضِغْثًا مِنْ خَلًا مُتَطَيِّبِ وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ عَنْ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} يَقُولُ: حُزْمَةٌ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} قَالَ: أَمْرٌ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا مِنْ رُطْبَةٍ بِقَدْرِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَيَضْرِبُ بِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ يَمَانٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، فِي قَوْلِهِ (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا) قَالَ: عِيدَانًا رَطْبَةً. حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامٍ الرِّفَاعِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُهَاجِرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} قَالَ: هُوَ الْأَثْلُ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا}.. الْآيَةَ، قَالَ: كَانَتِ امْرَأَتُهُ قَدْ عَرَضَتْ لَهُ بِأَمْرٍ، وَأَرَادَهَا إِبْلِيسُ عَلَى شَيْءٍ، فَقَالَ: لَوْ تَكَلَّمَتْ بِكَذَا وَكَذَا، وَإِنَّمَا حَمَلَهَا عَلَيْهَا الْجَزَعُ، فَحَلَفَ نَبِيُّ اللَّهِ: لَئِنِ اللَّهُ شَفَاهُ لِيَجْلِدَنَّهَا مِئَةَ جَلْدَةٍ، قَالَ: فَأَمَرَ بِغُصْنٍ فِيهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ قَضِيبًا، وَالْأَصْلُ تَكْمِلَةُ الْمِئَةِ، فَضَرَبَهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَأَبَرَّ نَبِيُّ اللَّهِ، وَخَفَّفَ اللَّهُ عَنْ أَمَتِهِ، وَاللَّهُ رَحِيمٌ. حُدِّثْتُ عَنِ الْحُسَيْنِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا مُعَاذٍ يَقُولُ: أَخْبَرَنَا عُبَيْدٌ، قَالَ: سَمِعْتُ الضَّحَّاكَ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} يَعْنِي: ضِغْثًا مِنَ الشَّجَرِ الرَّطْبِ، كَانَ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَأَخَذَ مِنَ الشَّجَرِ عَدَدَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَبَرَّتْ يَمِينُهُ، وَهُوَ الْيَوْمُ فِي النَّاسِ يَمِينُ أَيُّوبَ، مَنْ أَخَذَ بِهَا فَهُوَ حَسَنٌ. حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} قَالَ: ضِغْثًا وَاحِدًا مِنَ الْكَلَأِ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ مِئَةِ عُودٍ، فَضَرَبَ بِهِ ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَذَلِكَ مِئَةُ ضَرْبَةٍ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، قَالَ: ثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ثَنَا صَفْوَانُ، قَالَ: ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ} يَقُولُ: فَاضْرِبْ زَوْجَتَكَ بِالضِّغْثِ، لِتَبَرَّ فِي يَمِينِكَ الَّتِي حَلَفْتَ بِهَا عَلَيْهَا أَنْ تَضْرِبَهَا (وَلَا تَحْنَثْ) يَقُولُ: وَلَا تَحْنَثْ فِي يَمِينِكَ. وَقَوْلُهُ {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} يَقُولُ: إِنَّا وَجَدْنَا أَيُّوبَ صَابِرًا عَلَى الْبَلَاءِ، لَا يَحْمِلُهُ الْبَلَاءُ عَلَى الْخُرُوجِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالدُّخُولِ فِي مَعْصِيَتِهِ {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ مُقْبِلٌ، وَإِلَى رِضَاهُ رَجَّاعٌ.
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}. اخْتَلَفَتِ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ (عِبَادِنَا) فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْأَمْصَارِ: (وَاذْكُرْ عِبَادَنَا) عَلَى الْجِمَاعِ غَيْرَ ابْنِ كَثِيرٍ، فَإِنَّهُ ذُكِرَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَهُ: "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا" عَلَى التَّوْحِيدِ، كَأَنَّهُ يُوَجِّهُ الْكَلَامَ إِلَى أَنَّ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُمَا ذُكِرَا مِنْ بَعْدِهِ. حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: ثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عَطَاءٍ، سُمِعَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقْرَأُ: "وَاذْكُرْ عَبْدَنَا إِبْرَاهِيمَ" قَالَ: إِنَّمَا ذُكِرَ إِبْرَاهِيمُ، ثُمَّ ذُكِرَ وَلَدُهُ بَعْدَهُ. وَالصَّوَابُ عِنْدَهُ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي ذَلِكَ، قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ عَلَى الْجِمَاعِ، عَلَى أَنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ بَيَانٌ عَنِ الْعِبَادِ، وَتَرْجَمَةٌ عَنْهُ، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ عَلَيْهِ. وَقَوْلُهُ {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} وَيَعْنِي بِالْأَيْدِي: الْقُوَّةَ، يَقُولُ: أَهْلُ الْقُوَّةِ عَلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وَطَاعَتِهِ. وَيَعْنِي بِالْأَبْصَارِ: أَنَّهُمْ أَهْلُ أَبْصَارِ الْقُلُوبِ، يَعْنِي بِهِ: أُولِى الْعُقُولِ لِلْحَقِّ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ فِي ذَلِكَ نَحْوًا مِمَّا قُلْنَا فِيهِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، قَالَ: ثَنَا أَبُو صَالِحٍ، قَالَ: ثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ (أُولِي الْأَيْدِي) يَقُولُ: أُولِي الْقُوَّةِ وَالْعِبَادَةِ، وَالْأَبْصَارِ يَقُولُ: الْفِقْهُ فِي الدِّينِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، قَالَ: ثَنِي أَبِي، قَالَ: ثَنِي عَمِّي، قَالَ: ثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} قَالَ: فُضِّلُوا بِالْقُوَّةِ وَالْعِبَادَةِ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمَثْنَى، قَالَ: ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: ثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ مَنْصُورٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ (أُولِي الْأَيْدِي) قَالَ: الْقُوَّةُ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَنْبَسَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ أَبِي بَزَّةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ (أُولِي الْأَيْدِي) قَالَ: الْقُوَّةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا حَكَّامٌ، عَنْ عَمْرٍو، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ (أُولِي الْأَيْدِي) قَالَ: الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ، (وَالْأَبْصَارُ): الْعُقُولُ. حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَحَدَّثَنِي الْحَارِثُ، قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ، قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} قَالَ: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، (وَالْأَبْصَارُ): قَالَ: الْبَصَرُ فِي الْحَقِّ. حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} يَقُولُ: أُعْطَوْا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ، وَبَصَرًا فِي الدِّينِ. حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، قَوْلُهُ {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} قَالَ: الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْأَبْصَارُ: الْبَصَرُ بِعُقُولِهِمْ فِي دِينِهِمْ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: ثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} قَالَ: الْأَيْدِي: الْقُوَّةُ، وَالْأَبْصَارُ: الْعُقُولُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَمَا الْأَيْدِي مِنَ الْقُوَّةِ، وَالْأَيْدِي إِنَّمَا هِيَ جَمْعُ يَدٍ، وَالْيَدُ جَارِحَةٌ، وَمَا الْعُقُولُ مِنَ الْأَبْصَارِ، وَإِنَّمَا الْأَبْصَارُ جَمْعُ بَصَرٍ؟ قِيلَ: إِنَّ ذَلِكَ مَثَلٌ، وَذَلِكَ أَنَّ بِالْيَدِ الْبَطْشَ، وَبِالْبَطْشِ تُعْرَفُ قُوَّةُ الْقَوِيِّ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلْقَوِيِّ: ذُو يَدٍ، وَأَمَّا الْبَصَرُ، فَإِنَّهُ عَنَى بِهِ بَصَرَ الْقَلْبِ، وَبِهِ تُنَالُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لِلرَّجُلِ الْعَالِمِ بِالشَّيْءِ: يَصِيرُ بِهِ. وَقَدْ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ عَنَى بِقَوْلِهِ (أُولِي الْأَيْدِي): أُولِي الْأَيْدِي عِنْدَ اللَّهِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فَجَعَلَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا أَيْدِيًا لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ تَمْثِيلًا لَهَا بِالْيَدِ، تَكُونُ عِنْدَ الرَّجُلِ الْآخَرِ. وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَؤُهُ: "أَوْلِي الْأَيْدِ" بِغَيْرِ يَاءٍ، وَقَدْ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ التَّأْيِيدِ، وَأَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْأَيْدِي، وَلَكِنَّهُ أَسْقَطَ مِنْهُ الْيَاءَ، كَمَا قِيلَ: {يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ}، وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ} يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: إِنَّا خَصَصْنَاهُمْ بِخَاصَّةِ: ذِكْرَى الدَّارِ. وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي قِرَاءَةِ قَوْلِهِ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} فَقَرَأَتْهُ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْمَدِينَةِ: "بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ" بِإِضَافَةِ خَالِصَةٍ إِلَى ذِكْرَى الدَّارِ، بِمَعْنَى: أَنَّهُمْ أُخْلَصُوا بِخَالِصَةِ الذِّكْرَى، وَالذِّكْرَى إِذَا قُرِئَ كَذَلِكَ غَيْرُ الْخَالِصَةِ، كَمَا الْمُتَكَبِّرُ إِذَا قُرِئَ: "عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ" بِإِضَافَةِ الْقَلْبِ إِلَى الْمُتَكَبِّرِ، هُوَ الَّذِي لَهُ الْقَلْبُ وَلَيْسَ بِالْقَلْبِ. وَقَرَأَ ذَلِكَ عَامَّةُ قُرَّاءِ الْعِرَاقِ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} بِتَنْوِينِ قَوْلِهِ (خَالِصَةً) وَرَدَّ ذِكْرَى عَلَيْهَا، عَلَى أَنَّ الدَّارَ هِيَ الْخَالِصَةُ، فَرَدُّوا الذِّكْرَ وَهِيَ مُعَرَّفَةٌ عَلَى خَالِصَةٍ، وَهِيَ نَكِرَةٌ، كَمَا قِيلَ: لِشَرِّ مَآبٍ: جَهَنَّمُ، فَرَدَّ جَهَنَّمَ وَهِيَ مُعَرَّفَةٌ عَلَى الْمَآبِ وَهِيَ نَكِرَةٌ. وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ عِنْدِي أَنَّهُمَا قِرَاءَتَانِ مُسْتَفِيضَتَانِ فِي قَرَأَةِ الْأَمْصَارِ، فَبِأَيَّتِهِمَا قَرَأَ الْقَارِئُ فَمُصِيبٌ. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ، فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ هِيَ ذِكْرَى الدَّارِ: أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يُذَكِّرُونَ النَّاسَ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا بِشْرٌ، قَالَ: ثَنَا يَزِيدُ، قَالَ: ثَنَا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ: بِهَذِهِ أَخْلَصَهُمُ اللَّهُ، كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ أَخْلَصَهُمْ بِعَمَلِهِمْ لِلْآخِرَةِ وَذِكْرِهِمْ لَهَا.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْأَزْدِيُّ، قَالَ: ثَنَا يَحْيَى بْنُ يَمَانٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ: بِذِكْرِ الْآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهُمْ هَمٌّ غَيْرُهَا. حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، قَالَ: ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، قَالَ: ثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ: بِذِكْرِهِمُ الدَّارَ الْآخِرَةَ، وَعَمَلِهِمْ لِلْآخِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَى ذَلِكَ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ. وَأَمَّا الْقَوْلَانِ الْأَوَّلَانِ فَعَلَى تَأْوِيلِ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنِي يُونُسُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ أَبْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِهِ: " {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} " قَالَ: بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ أَخْلَصْنَاهُمْ بِهِ، وَأَعْطَيْنَاهُمْ إِيَّاهُ، قَالَ: وَالدَّارُ: الْجَنَّةُ، وَقَرَأَ: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ} قَالَ: الْجَنَّةُ، وَقَرَأَ: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} قَالَ: هَذَا كُلُّهُ الْجَنَّةُ، وَقَالَ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَيْرِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: خَالِصَةُ عُقْبَى الدَّارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حَدَّثَنَا ابْنُ وَكِيعٍ، قَالَ: ثَنَا أَبِي، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ سَالِمٍ الْأَفْطَسِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} قَالَ: عُقْبَى الدَّارِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ مَعْنَى ذَلِكَ: بِخَالِصَةِ أَهْلِ الدَّارِ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ: حُدِّثْتُ عَنِ ابْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: ثَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا يَقُولُ: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} هُمْ أَهْلُ الدَّارِ، وَذُو الدَّارِ، كَقَوْلِكَ: ذُو الْكَلَاعِ، وَذُو يَزَنٍ. وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِكَلَامِ الْعَرَبِ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِالتَّنْوِينِ (بِخَالِصَةٍ) عَمَلٌ فِي ذِكْرِ الْآخِرَةِ. وَأَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالتَّنْوِينِ أَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ هِيَ ذِكْرَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَعَمِلُوا لَهَا فِي الدُّنْيَا، فَأَطَاعُوا اللَّهَ وَرَاقَبُوهُ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي وَصْفِهِمْ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مِنْ صِفَتِهِمْ أَيْضًا الدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ، وَالْعَمَلِ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ، غَيْرَ أَنَّ مَعْنَى الْكَلِمَةِ مَا ذَكَرْتُ. وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَهُ بِالْإِضَافَةِ، فَأَنْ يُقَالَ: مَعْنَاهُ: إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ مَا ذُكِرَ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ، فَلَمَّا لَمْ تُذْكَرْ "فِي" أُضِيفَتِ الذِّكْرَى إِلَى الدَّارِ كَمَا قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} وَقَوْلُهُ {بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ}. وَقَوْلُهُ {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ} يَقُولُ: وَإِنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ ذَكَرْنَا عِنْدَنَا لَمِنَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَاهُمْ لِذِكْرَى الْآخِرَةِ الْأَخْيَارِ، الَّذِينَ اخْتَرْنَاهُمْ لِطَاعَتِنَا وَرِسَالَتِنَا إِلَى خَلْقِنَا.
|